يحل اليوم الأربعون على رحيل رفيق الدرب، محمد الحمران، رئيس جماعة الفنون التشكيلية بالقطيف سابقاً، وبينما كنت أقلب أوراقي المبعثرة وجدت نصاً منسياً كنت بصدد إرساله له بالتزامن مع نص وصل إليه من قبل، بعنوان “صديقي المسافر إلى خراسان”.
كان ذلك قبل 6 سنوات تقريباً، ولست أدري كيف تاه مني هذا النص، حينها كان على سفر من مدينة إلى أخرى في بلاد فارس، وكنت أتطلع أن يزور مدينة مميزة، فريدة من نوعها، جمالها آسر، هي سيدة المدن، رجوته أن لا يفوتها طمعاً مني ليسلك دروب التاريخ والآثار الباذخة، لحظتئذ دارت بيننا عدة دردشات ورسائل قصيرة عبر الأثير، مؤكداً له أن يجول في ارض الله الواسعة، فالعمر محطات وحقائب سفر، قائلاً له: لا تنسَ نصيبك من نصف الدنيا، ففي الأسفار خمس فوائد.
يا رفيق الدرب لماذا استعجلت السفر عنا باكراً وتركتنا على قارعة الحسرات؟ نجر الآهات، كم نشتاق إليك، نشتاق لطلتك، لتعليقاتك، لنبرة صوتك، لقفشاتك، لتعليقاتك، للحظات صمتك، لاتصالاتك، لتصبيحاتك، لانفجار ضحكتك المفاجئة، رحيلك كم كان مفاجئاً لنا، ولكل أقاربك ومحبيك ومعارفك، كيف لنا أن نفاجئك عن ما هو المستجد من فن وأفكار ورؤية مستقبلية لنادي الفنون، وأنت الساعي والحاث ليكون لنا كيان مستقل، صالة نموذجية بكل المقاييس الفنية.
كم وددنا أن يطول بك العمر لنترجم معاً ما دار بيننا من عديد الجلسات والاجتماعات هنا وهناك لتشاركنا الفرح بما هو آتٍ، لكن أخذك منا هادم اللذات، كم وددنا أن نحقق معك أحلاماً وأحلاماً لجماعة الفنون التشكيلية بالقطيف، ولكن وألف لكن! آه ما أقسى مرارة الفقد، أربعون يوماً على رحيلك يا أعز الأصدقاء، هكذا الأيام تمر، ذكراك لن تمر، فلك في القلب منزلة، اليوم أحبابك، والصحب الجميل نثروا ذكراك عبر كلمات ومرثيات وعبير صور.
نلوذ بالحنين إليك، نطرق باب منزلك لتفتح لنا أبواب قلبك، النابض تفانياً وإخلاصاً، نطرق أبواب الذكرى سلوى عن أوجاع الغياب، يا راحلاً عنا جسداً طيفك لم يرحل ماثلاً أمامنا، وفي هذا اليوم سأتلو سطوراً أجددها شوقاً إليك، كأنك حاضر تسيخ السمع، سأعيد النص لذكراك العطرة، عربون محبة ضافية للأيام الخوالي.
عزيزي يا أبا قاسم يا قاصداً مدينة نصف الدنيا، حينما تطأ قدماك نصف جهان، توضأ من مياه نهر “زاينده رود – نهر الخصب”، وارتشف بعضاً من قطراته، وتذكر بطولات “شاه عباس الأول” القائد المظفر، وانثر الماء فضاءً، تيمناً باحتفالاته من كل عام، حيث يصطف الناس ويرشون ماء النهر وماء الورد على بعضهم البعض، وارفع بصرك واعبر جسر “خاجو” ذا الطابقين، العلوي بالآجر والسفلي بالحجر، الذي كان يتفجر منه أربعون ينبوع ماء، وتأمل تجاويفه المزخرفة والأقواس والدهاليز والعشرين قنطرة.
ثم يمم وجهك المبلل بالفرح واتجه نحو ميدان “نقشي جاهان”، وعرج على معالمه الخالدة قصر “علي قابو” المكون من ستة طوابق، الذي يبعث على الإعجاب والخيلاء والزهو، وادلف إلى مسجد الشيخ لطف الله، والتقط أنفاسك قليلاً في القصر الملكي ذي الأربعين عموداً، وارفع عن كاهلك فقر معمارنا الفني، وأشبع حواسك بكل ما تراه في القصر من بذخ جمالي! وتجول بين الحوانيت المترادفة بالأقواس، والمعبأة بالتحف والهدايا وآيات الفن الرفيع، ودندن مع إيقاع طارقي القدور النحاسية الطاعنون في السن، وتأمل فن “المينياتور” السابح على الأوراق والأواني.
ولا تنسَ أن تشتري قطعاً من قماش “القلمكاري” المحمل بالرسوم الفطرية التي تسرد حماسيات وحروب الأئمة المعصومين وخطب وحماسيات زينب الكبرى (ع)، واروِ ذائقتك بالفنون التطبيقية الأصيلة المتوارثة من صناعها المهرة من لدن الحرفيين القادمين من سهوب فارس وهضاب خراسان وتخوم خوارزم، وتلمس جدران مباني المدينة العتيقة وقصورها الفاخرة، ومساجدها ومدارسها التي غطت شهرتها الآفاق بما حوت من كل علم وفن، فخرجت حفاظ الحديث والأدباء واللغويين الذين حملوا اسمها فخراً واعتزازاً لمنارتها المضيئة بين المدن.
أمجاد خالدة، فهي بحق درة بلاد فارس، التي تعد فخر الدولة البويهية، مدينة أخذت زخرفها وتزينت في عزها الصفوي، المتوج بعصرها الذهبي، وعلى أرضها اعترك التاريخ بدم الكر والفر والنصر المؤزر.
أبا قاسم هذه المدينة لها أوجه مثل المرايا، تغويك فتنة إلى جنائن فردوسها المعلق شعراً وأدباً وأثراً، مدينة تخاتلك سفراً عبر حكاياتها الأسطورية، خذ من نفحاتها ما استطعت سبيلاً، حيث تتعايش الديانات الثلاث جنباً إلى جنب في وئام وسلام (اليهودية والمسيحية والإسلام)، واتلُ في فؤادك سماحة التعايش، لعل قومنا يعقلون، واعرج على المساجد والجوامع الأثرية المترامية في عرض البلاد وطولها، وكل واحد سيفضي لك بعديد الحكايا، ولا تنسَ نصيبك في التجوال في الحدائق (حديقة الطيور) واسمع تغريدها الآسر، وامكث وقتاً في ربوع “حديقة الزهور”، حيث سترى الورود أشكالاً وأنواعاً تحيي النفوس وتبهج الفؤاد، تنشق وخذ نفساً من عبيرها الأخاذ كما العشاق المتجولين في الظلال الوارفة، وقل ما شاء الله على الوجوه النضرة جل من سواها.
تأمل في الربوع، ستجد الماء والخضرة والوجه الحسن ماثلاً أمام عينيك واستوحِ رسماً ما شئت، كما استلهم الشعراء العظام وأدباء وفنانو بلاد فارس من تلك الوجوه النضرة، العابرون ألقاً لفراديس الأحلام، سبحوا خيالاً وفاضت قرائحهم حرفاً ولوناً إبداعاً على مر العصور.
وأخيراً يا أبا قاسم قبل أن تودع المدينة سلم سلاماً حاراً على العبقري الفذ والمبدع العالم الفقيه الشيخ “البهائي” مهندس نصف الدنيا “نقش جهان”، إنه عالم حوى العلوم كلها، أن تكتشف هذا العلامة ستكتشف جلال العلم والفكر والفن، فهو من أضاء نجومها تألقاً على سائر المدن، فخلدها بصفحات من ذهب، وتذكر أن “اليونسكو” توجتها كمدينة تراث إنساني.
إيه يا أصفهان إنك لا تروي ظمأ العَجول أو العابر مرور الكرام، أنتِ مدينة ليست ككل المدن، إنك مدينة العشق والعشاق! قالوا من يحبك عشقاً ستهبينه بلذائذ سحرك الأخاذ، وأي سحر فيكِ يا نصف الدنيا.
تلك كانت رسالة شوق يا غائب عنا، نجدد التحايا لذكراك، لك منا سلام وألف سلام يا مسافر عنا من غير ميعاد.