كيف تتحول الأحداث والأشخاص إلى أيقونات ورموز وأمثلة؟
الأسطورة أو الأساطير أو الميثولوجيا قسم من أقسام العلوم الإنسانية، ويهتم بكيفية تحول البشري أو الحادثة من حالة شديدة الخصوصية إلى حالة عامة ومنفتحة على التأويلات المختلفة وتتشارك فيها الكثير من الأدبيات الدينية والاجتماعية والاقتصادية، أي جميع مناحي الحياة الإنسانية.
في كل مجتمع وبيئة وشعب وأمة مجموعة من الأساطير ربما تشترك مع غيرها وربما تتفرد بها، فللهنود المهابهاراتا وشخصيات شيفا وفيشنو وللفرس الشاهنامة وبطلهم رستم، أما اليونان فلديهم أخيل في الإلياذة وهرقل في غيرها، والعراق أو بلاد ما بين النهرين لديهم جلجامش وصديقه أنكيدو.
المرويات الأسطورية والشخصيات التي احتوتها بمر الزمان ترسخت في أذهان الناس كقيم، سواء قيم خير أو شر، وغالباً هي قيم خير، لأن الإنسان لا يحتفظ في ذاكرته إلا بما يمنحه التفاؤل والسعادة، وإن وجدت إلى جوارها قيم غير خيِّرة مثل هيديس ملك الموتى وحامي جهنم كما في الميثولوجيا اليونانية.
الشخصيات تتحول إلى نماذج، فيتبعها الناس، ويحاولون تمثلها، وينظرون إليها باعتبارها المثال الذي ينبغي أن يُحتذى، ولهذا تتكاثر حولها الروايات والأحداث لغرض ترسيخ وجودها داخل الذاكرة الشعبية، مثلما هو الحال مع أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن في الميثولوجيا العربية.
وليس بعيداً عن ذلك قضية كربلاء وأحداث يوم العاشر من المحرم عام 61 هجرية، حين التقى “الحسين بن علي” مع جماعة قليلة من أهل بيته وأصحابه بجيش جرار ومدجج بالسلاح أرسله “عبيد الله بن زياد” للإمساك به وجلبه إما أسيراً أو قتيلاً.
شخصية الحسين اجتمعت فيها السمات الأسطورية المطلوبة، إذ خرج في رحلة من مكة إلى الكوفة تاركاً فريضة الحج يوم التاسع من ذي الحجة، وهي الشرارة الفعلية التي انطلقت منها الأحاديث والروايات، فكيف لسبط النبي وسيد بني هاشم أن يتجاوز فريضة من الفرائض الهامة في الديانة الإسلامية.
هذا الخروج جعل الناس يتحدثون عما حصل له ومنعه من أدائها على غير العادة المُتبعة، وهنا تكاثرت الروايات وزيدت وانتشرت الأقاويل، أما الحقيقة الفعلية فهي لدى الحسين وحده، الذي اتجه ناحية الكوفة والتقى أولاً بجيش الحر الرياحي الذي تعداده ألف فارس فسقاهم الماء بخيولهم، بينما الحسين وأهل بيته عددهم لا يجاوز المائة.
بدأت أولى حالات الأسطرة عبر المعاملة التي جرت بين الفريقين ورفض الحسين الخضوع لسلطة الحر واتخاذه طريقاً يبعده عن الكوفة حتى استقراره في كربلاء، التي تعتبر ثاني حالات الأسطرة، حيث رفضت الخيول التحرك، فقرر نصب خيامه في المنطقة.
وبعدها توالت الحشود المساندة لجيش الحر، فقدم عمر بن سعد بآلاف الفرسان والرجالة وأحاطوا بالحسين وأصحابه، وهنا وقعت ثالث حالات الأسطرة عبر الشجاعة الفائقة والاستبسال الخارق في مجابهة العدو، ولولا قلة العدد لانتصروا وهزموه.
باستشهاد الحسين تكون فصول المسرحية قد انتهت وأسدلت الستائر وبقيت المرحلة الأخيرة من مراحل الأسطرة، وهي الروايات المساندة التي تحكي البطولات الخارقة والمواقف الاستثنائية التي حصلت والأحاديث التي جرت سواء بينه وبين أعدائه أو بينه وبين أهل بيته ومناصريه.
بمر الزمان وتوالي الأيام تتابعت الروايات بالظهور والانتشار وتوسعت وأضيف لها الكثير وبات من الصعب التفريق بين الحقيقية وغير الحقيقية منها، مما أنتج ميثولوجيا إسلامية تعتمد قيم الدين والخير والفضيلة والإباء والاستبسال في الدفاع عن الحق والنفس والحرمات.
لا شك أن هذه الميثولوجيا مستمرة في وجدان المسلمين ولا يمكن التغاضي عنها أو نسيانها أو حتى تجاوزها في الأدبيات الكتابية والخطابية، فهي تجذرت داخل اللاوعي الإسلامي وتحول أبطالها إلى رموز وأيقونات وأمثلة تُحتذى ويؤخذ بها.
لعل مأساة كربلاء وما حصل خلالها تعتبر أول ميثولوجيا في تاريخ الدين الإسلامي وآخر ميثولوجيا فوق الأرض كافة، فليس هنالك بعدها من أساطير ورموز اهتم بها الناس وأفاضوا بالحديث عنها، ولا تزال إلى اليوم تلهب المشاعر وتعيد إنتاج نفسها ودلالاتها، مما يشير إلى حضورها في وجدان العالم أجمع.