أيها الموحي للذائقة يا واهباً اللؤلؤ والدانات، سرت على الضفاف وفي اللجة، أتتبع أسفار من عبروا موجك في ارتحالاتهم البعيدة، لعلي أسيخ السمع لحكايات التدوين، والمطرزة في رق منشور والمؤطرة كالمعلقات على أستار جدران الفن.
رأيت اليوم حكاية أسطورة جلجامش برؤية معاصرة تبعث من مرقدها وتقول للحواس الخمس هاكم كتابيه، وتلمست نبض مخاوف ذاتية لأوجاع المتعافي من مرضه، ورأيت انعكاسات كائن لا يرى بالعين المجردة، فتك بالإنسانية، كيف قاد اللون لنبصر الأمل ونبتعد عن سوءة تراجيديا المحنة، نحو رباط الأسرة، بعزف الدفء وتجاوز المصائب والفواجع، بالنظر للجانب المشرق من الحياة لنعبر الظلمة بفتح نوافذ النور واللحاق بقوافل الأحلام.
صباح هذا اليوم قمت بزيارة معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية في نسخته 47.
والمقام داخل بهو المسرح الوطني المجاور للمتحف،
والذي باتت عروضه في السنوات الأخيرة في هذا المكان الراقي والمطل على ضفاف البحر مباشرة، هو الخيار المفضل للمعرض السنوي، باستثناء عرضين سابقين، واحد كان من ضمن اختيار المحرق عاصمة الثقافة الإسلامية (2018)، حيث نصبت خيمة ضخمة بجوار قلعة عراد الأثرية + معرض الكتاب وفعاليات ثقافية متنوعة، وآخر نسخة فعلية أقيمت في فندق الرتز كارلتون بالمنامة عام 2019، بوضع خيمة وأجنحة متعددة وأخرى منفردة، وهي عبارة عن استضافات تكريمية لأعمال فنانين عرب أثروا الساحة العربية والعالمية.
أما نسخة 46 للعام المنصرم 2020، فكان المعرض افتراضياً بسبب جائحة كورونا، وذلك عبر زيارة الموقع الإلكتروني لهيئة البحرين للثقافة ووالآثار
يأتي معرض هذا العام 2021 متنوعاً في الطرح والأساليب، لوحات مسندية، وأعمال تركيبية، ومجسمات، ولوحات فوتوغرافية، لـ 57 مشاركاً بمختلف أجيال فناني وفنانات البحرين من الرواد إلى جيل الشباب، وبعض الفنانين المقيمين في مملكة البحرين.
وقد حصل على جائزة الدانة، المركز الأول/ الفنانة مريم النعيمي عن عملها “تبدلات الماء”، وهو عمل تركيبي يجمع ما بين التصوير الفوتوغرافي والفيديو واقتباسات من أسطورة جلجامش.
وحصل على المركز الثاني الفنان / أحمد عنان بعنوان “الأسرة” وهي ثلاث لوحات متسلسلة، يشف سطحها عن خامات متعددة، عمل ذو مضمون هادف، يحمل في طياته الآثار التي تركتها أزمة جائحة كورونا (كوفيد – 19) على الأسر والعائلات، عمل مبهج مستلهم من تعابير رسوم الأطفال وكأن يد طفل أنجزت العمل.
وثمة فنانون عالميون معاصرون يحاكون رسوم الأطفال بكل ما تحمله من قيم تعبيرية، حيث العفوية والتلقائية هما السائدتان في التكوين واللون، مثل لوحات الفنان الأمريكي “جان باسكيات” وغيره ممن يقتبسون من عالم رسوم الطفولة المليئة بالصدق وبالرؤية البريئة للعالم، مع الأخذ في الاعتبار أهمية توازن الشكل بنظرة واعية، وعناصر تنحو باتجاه المبالغة وشيء من التجريد والتسطيح.
يقول الفنان أحمد عنان عن عمله: “العائلة وحدة المجتمع وسر السعادة” في البحرين، إن جائحة كورونا تسببت في انقطاع اتصال العائلات مع بعضها البعض، وبعض العائلات فقدت أحباءها، لم أرد معالجة هذا الموضوع بشكل تراجيدي، بل بشكل فيه أمل، فقمت بإظهار الفرح في الألوان، ونظرت للأمر بعيون الطفل وعبرت بيده وعقله، ولكن مهما كان لن نعود كالأطفال”، عملك يا عنان أيها الفنان المتجدد فيه شيء من أجواء مارك شاغال.
والجائزة الثالثة ذهبت إلى الفنانة جمانة القصاب التي تشارك لأول مرة في معرض البحرين السنوي، وحظها يقودها للفوز عن عمل فيه طرح جديد ورؤية مغايرة تحت عنوان “أعراض جانبية”، وأقتبس ما قيل عن هذا العمل المفاجئ لها ولكل الفنانين الذين لهم باع طويل في الفن “عملها التركيبي يعالج موضوعاً قلما يتم التطرق إليه، فهو يتمحور حول الأعراض الجانبية للتعافي من الأمراض النفسية”، وتقول جمانة: “يفقد المتعافي جزءاً من هويته لصالح العلاج، بديلاً عن فقدانه الكامل لاتزانه، وهو جانب من التضحيات الثقيلة التي يجب على المريض تقديمها”.
التفاتة لا أظن أنها مستحدثة، ثمة روايات وحتى أفلام تطرقت لتلك الحالة.
ويبقى الشيء اللافت، كيف تعيد صياغة ما رأيت وتطرحه بصورة مغايرة.
يقول الجاحظ: “المعاني ملقاة على قارعة الطريق، يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ”، وبكل بساطة الألفاظ يتداولها الناس، لكن كيف لك أن تقدمها في قوالب غير مألوفة وبحلة آسرة وتراكيب جديدة، وهذا ينطبق على جميع الفنون.
الشيء المستجد في هذا المعرض والذي قبله وضع جائزة رابعة تلقب من قبل الزوار بـ “جائزة الجمهور”، حيث سيفوز بها الفنان الحاصل على أكبر عدد من الأصوات من خلال منصة إلكترونية في بهو المعرض تعلن في ختام المعرض.
كم أدهشتني الأعمال والأفكار المطروحة، الزيارة أمتعتني كثيراً وحلقت بي نحو بحور بعيدة، هكذا يفعل الفن حينما تغوص في أعماقه، طواف حول المعرض لمدة ساعتين مليئتين بالتأمل والأحاديث الفنية مع القيمين على المعرض، موثقاً جميع محتويات الأعمال، برغم وجود كتيب أنيق وفخم للمعرض، ودائماً تحرص الهيئة على مدى 8 سنوات على تقديم كتيب لكل معرض، أشبه بكتاب تشكيلي يتضمن عرض عمل لكل فنان مشارك مع تعريف لرؤيته الفنية.
وهذا يتشابه مع كثير من المعارض الغربية المتبعة منذ سنين سواء الفردية أو الجماعية.
من وجهة نظري أن المعرض الذي يقدم كتالوجاً عن محتوياته، فهو يرفع من قيمته ومن الجهد المبذول، ويحفظ للمعرض مكانته تاريخياً ويصبح دليلاً لكل باحث وفنان وناقد، بغض النظر عن التقارير الصحفية وتغطيات السوشيال ميديا التي تصاحب المعارض حالياً، لكنها لا تغني عن وجود الكتيب.
وشتان بين إقامة معرض بلا كتيب وآخر بكتيب، جهد الأول ليس مكلفاً والمعاناة أخف وطأة، أما الثاني متعب ومضنٍ جداً، لأن الكتيب وراءه تحضير مسبق وترتيب وتنسيق وتبويب وتصوير وفرز ألوان إلخ… باختصار وجود الكتيب هو ما يحفظ الذكرى لكل معرض تشكيلي سواء كان فردياً أو جماعياً.
وكم أحزن حين أدلف لأي معرض ولا أجد كتيباً يوثق الأعمال ويقدم نهج وفلسفة الفنان، وكل الكتيبات السابقة للمعارض السنوية لفناني وفنانات البحرين أحتفظ بها في أرشيف مكتبتي، بالإضافة للعديد من المعارض الجماعية والفردية داخل الوطن وخارجه، الكتيب جواز سفر لكل فنان.
ملاحظة: المعرض انطلق يوم 14 يوليو ومستمر لنهاية شهر 8 أغسطس الحالي.
مواعيد الزيارة من الساعة 10 صباحاً إلى 7 مساءً.
معرض بكل أمانة يستحق الزيارة، ممتلئ برؤى متعددة ومتجدد على مستوى الطرح والمضمون.
وأختم هذه المقالة برؤية الفنانة الفائزة بالجائزة الأولى لمعرض البحرين السنوي 2021، حيث تقول مريم النعيمي عن عملها: “لنتأمل في الحال الجغرافي للماء من حولنا، وجوده وغيابه، وتبدلاته، وحركته، واختفاءاته، وكيف لهذا التبدل المستمر أن يشكل ويعيد تشكيل الهويات التي تكونت حوله، في محاولة لحفظ القصة والذاكرة، ذاكرة الماء الذي كان والذي يكون”.
كم هو جميل أن تقودك الفكرة لبلورة عمل جديد، برؤية لافتة، ويزداد تألقاً إذا استطعت أن تفلسف ما أنت بصدده لتجعل الذائقة تبصر الدهشة.