ما أصعب أن تكُون بين خيارين، الشيء المُر فيهما، أنَّ ما تُريده لا يُمكنُك توضيحه إلى الآخرين، والأشد مرارة منه، أن تكون الأم طرفًا في الاختيار، حيث إن ما تُريده، قد يتعارض مع رغبتها، لتكُون مُجبرًا على التَّبرير والتُّوضيح، ولكنَّه صعب المنال حُدوثه.
بعد أن اقتنع مُحسن بالزَّواج، يدخُل في دوامة أخرى، لا يعرف لها سبيلًا، فكيف له أن يُثني أمه عن فاتن بنت أختها، التي لا يتشارك معها في أي شيء من تطلعاته ورؤياه، ميوله الثقافي والأدبي، البيئة التَّربوية، التي عاشتها، لا تنتمي إلى بيئته، فإنَّها عاشت مُعظم مرحلة المُراهقة خارج البلاد، لتتأثر بالحياة الغربية، فلا يعلم ما مدى تفاعُلها معها، ما نتج عن هذا التَّفاعل تربويًا وثقافيًا.
فاتن امرأة مُتناسق قوامُها، تبزغ على ملامحها الصّبغة الصَّفراء بياضًا، كأنَّها امرأة أجنبية، اكسبتها الخُضرة والغُيوم نُعومة أخرى، تُضاف إلى نُعومة جسدها، والأزرق من الغّيمات، تُغرقُها غزلًا، تنثُره خصلات شعرها، وتدرجه نزولًا، كفرس شامخ الطَّلة، تحتضنُها حُبيبات المطر، لترتعش تفاصيل جسدها في امتلاء، لم يكُن مُعيبًا، بقدر كونه جعلها، تتدلى، كراقصة البهو في حضرة الثّقة بالنَّفس.
تخرجت فاتن في الجَّامعة، وبعد رجُوعها إلى أرضها، لتُعانق تُراب وطنها، التي صافحته بابتسامتها، طفلة للتَّو، تفتح عينيها، لتُبصره.
ألقى مُحسن على أمه السلام، وجلس بجانبها، فبادرته.
بُني، ألم يأتي الأوان، لتتزوج.
نعم، أماه أراني أحتاج إلى امرأة، تُشاركُني حياتي وميولي، تتقاطع مع أفكاري أفكارها، ولكن فاتن لا أعلم عنها شيئًا، فقد عادت للبلاد مُنذ فترة.
أشرقت ابتسامة على شفتّها.
بُني، إنَّها فتاة رائعة وجميلة، وتُناسبك.
أماه، ألا نتريث بعض وقت، إنَّه زواج، وليس اسمنتًا وطوبًا، نُصففه.
تجهمت ملامحها، وقضبت جبينُها.
ماذا يعني ذلك؟!
أماه، امنحيني وقتًا، لأفكر.
حسنًا، بُني ليكُن في بالك، أنّي قد ألمحت لخالتك برغبتنا في فاتن.
نزلت عليه الكلمات، كالصَّاعقة، مُعتذرًا منها بالانصراف.
توجه مُحسن إلى المقهى، قلبُه مُضطربًا، أراد أن يجلس بمُفرده، يحتسي القهوة، وشيء من الكُنافة.
إنَّ الإنسان يحتاج بين فترة وأخرى، أن ينفرد بذاته، ليضع حياته تحت المجهر، يأخذها جذبًا ونفورًا، فالإنسان والحياة مليئة بالازدحام، الفوضى، التي تأنُّ للترتيب، ووضع كُلُّ شيء في مكانه، ليس فقط على مستوى الحياة الظَّاهرية، ولكنَّ هذا الترتيب، تهفو إليه أفكارنا ومشاعرنا، لنُخضعها إلى ثقافة الأولويات.
هذا التَّفرد بالذَّات والفكر، يأتي ليتخذ من الإيجابية سبيلًا، يتبع.
وبين المُوسيقى الهادئة والألوان، أمعن في التَّفكير، فإنَّه لا يُريد أن يُضايق أمه، مُتوجسًا في ما يُخبئه القدر له، هل يُوافق على الارتباط بفاتن، أم يمشي وراء عُشقه، الذي لم تُشرق ملامحه بعد في الأفق.
وفي ذات غفلة من اليقظة، داهمته رسالة على “الواتساب”، إنَّها عبير، ارتعش فكره، أحس بانفراج راحة، تنتابه.
السَّلام عليكم، كيف حالك مُحسن.
عليكم السَّلام عبير، الحمد لله بخير دامكم بخير.
الحمد لله نحن بخير، الله يحفظك، آسفة على الإزعاج، ولكن أردت منك الاطلاع على نص أدبي كتبته مُؤخرًا، وأنتظر توجيهاتك ومُلاحظاتك، كالعادة أتعبُك دائمًا كُلّما كتبت، فأنت أستاذي بعد وفاة أخي مُحمد – رحمه الله.
الله يرحمه الغالي، الله يحفظك، جميل جدًا رجُوعك للكتابة يا عبير، كُنت أنتظر هذا الرّجوع، كظل جاء بعد هُطول مطر ربيعي، حسنًا بالخدمة، لا يُجد تعبًا، نتشرف بذلك، أتمنى إرساله على الإيميل.
بإذن الله، مع السلامة.
الله يسلمك ويحفظك.
وبعد بضع دقائق وصله إشعار من الإيميل، يحمل بين طياته نصًا أدبيًا من عبير، عنوانه: كم أفتقدك.
رفرفت رُوحه انتشاء اللّحظة، فكم، كانت نُصوصها الأدبية، تُشعره بالسّعادة الغامرة، إنَّها الأبجدية، التي تُشبهه.
بدأ يقرأ بشغف.
“كم أفتقدك”
أدر من شفتيك
اللّغة
لمني من شتات أفكاري
من الصَّمت
من لغتي الغريبة إلا من ظلّك
وألوانك
جدّف قاربك
إنّي في عينيك بوحًا
يُراقصه اللّحن
بلا وتر
يا نشوة الأمنيات من رمشّيك إلى رمشيَّ
تستقر الكلمات
انتابته حالة من اللهفة إلى كتابة تعليقه على النَّص، إنَّه يترنم كُلّما قرأ ما ينسجه يراعها، كأنَّها ذاته، تسكن كُلَّ حرف من حُروفها.
كتب:
في البداية، أهنيك على النَّص، جميل جدًا ما خطه يراعك، لغتك صافية المرآة، تتمتع بأريحية الدّفء، تأتي، كهبة النَّسيم.
ما أروع أن يكون البوح، يُقرأ من خلال العينين، لتقُول ما لا تقُوله الشَّفتان.
الصُّورة البلاغية، تُثير إيقاعًا، وذبذبة شعورية في كاتبها والمُتلقي.
إنَّ ابتكار الصُّورة الجمالية من خلال التَّخيل، ومزجها الصُّور، سعيًا إلى توليد تشبيهات جديدة، يجيء ليُكون إبداعًا، يتميز بابتكار المعنى، بعيدًا عن الكلاسيكية، المُباشرة في عملية، تصوير المعنى للمُتلقي، والتَّعبير عنه لدى كاتبه.
أنتِ تمتلكين الحس الأدبي، تكتبين من قلبك، تعيشين الفكرة، وتنسجينها في قالب أدبي، وهذا ما يُميز أبجديتك.
إن الإبداع والتَّميز، والولوج إلى احتضان القمم الشَّماء، يبدأ بخطوة، والأهم من الخطوة الاستمرار، حينها تصلين الشاطئ، وتُعانقين الغيمات، وتمارسين الرَّقص على وقع حبات المطر.
كُلي رجاء في استمرار هذا النَّبع المُتدفق من البوح.
مُحسن قام بإرسال تعليقه على الإيميل، والابتسامة تبزغ من وجهه، كأنَّه للتو في حُلم جميل، لا يُريد الاستيقاظ منه.