أتبكيك الأبجدية، أم لوجع القلب غير الدَّمع سبيل.
في غفلة من الوقت، وإذا انشراح الليل، ليُولد في السَّماء الشُّروق، مُعلنًا عن يوم جديد، لا نعلم ما يُخفيه لنا، وما يحمله بياض قُرطاسه من آهات، من انكسار القلب.
تجمَّدت عيناي، احمرَّت وجنتيَّ، بادرته هلعًا: ماذا تقُول؟ ليُجيب: نعم، لقد تُوفي الحاج سعيد مرار “أبو محمد”، ما لي أراني والدُّموع، تنسكب بلا لون، بُكاء ذاتي، أدخلني دهاليز الصَّمت الجاثم على القلب، تُصففه الحسرة على شكل مرآة، أبصرتها في أعيُنهم، وأعيُننا.
آه، أيُّها الموت، لقد أوجعتنا، الفقد صراخ، لم يفتأ، يختطف نُجومًا، لكم أضاء جبينهم، لننعم بظلهم.
تُسافر اشتياقاتنا، أيُّها الموت إلى أحبة، لم تزل قلوبنا في أنين المُتعبين من الفراق، نتقاسم معهم، خُبز العُشاق، وماء الغارقين في البُعد.
يا أيُّها الصَّبر الجميل، كُن لنا ملاذًا، لتسكب على أرواحنا الطمأنينة.
ما أصعب أن يغيب الأب، ولا تترقب رُجوعه، كعادتك، لتُبصر عقارب الساعة، وتُحدث ذاتك، الآن، إنَّه في مجلسه، تتقدم خُطواتك، وتستقر بجانبه، تُناغيه، تتحدث معه، تتأمل ابتسامته، تُصغي إلى توجيهاته ونصائحه، تتلمس تعب السّنين في مُحياه، لتأتي وصاياه، تدخل القلب بلا استئذان، والأكثر منه، فإنها تدخله، والقلب الأكثر شوقًا إليها، إلى نبضات قلبه الأبوية، وحنانه وعطفه.
إليك أيُّها الأب، الذي احتضن الجميع بقلبه ومواقفه، والذي عشق مُصلاه ومسجده، الآن، يمر طيفُك في ذاكرتي، يأخذني مُبحرًا في تأمل اللحظات، مُتفكرًا بما تحمله من روح إنسانية عميقة الدّفء، من تواضع، جعلك في قلوبنا نموذجًا، يُحتذى طريقه، ونبراسًا، يُضيء الشُّرفات.
إنَّ القيمية الحقيقة للإنسان، أن تكون سيرته، مقصدًا للآخرين، وذاته الإنسانية، كالضَّوء، تُنير ظُلمات الذَّات.
وما زلت في التَّأمل، أواسيها النَّفس على فراق من له الفناء في عمل الطاعات والخيرات، في خدمة الآخرين، في يديه، اللتين، كالبلسم على رأس المُتعبين.
يقُول دوستويفسكي: كانت أمي تقُول لنا دائمًا، اضحكوا في وجه أبيكم عندما يعود إلى البيت، فالعالم في الخارج موحش، يُحطم الآباء.
إليك أيُّها الأب، لأنت الابتسامة والضحكات، يراها كُلُّ من يُقابلك، تسبقه أنت، أكان صغيرًا، أم كبيرًا، لكم، كانت أمي، تُحدثني عنك، وكم، كُنت أراقب شفتيك، كُلما التقيت بك بين ردهات الزَّمن، وأنت تسألني عن أمي، لأقول لها، أن “أبو مُحمد”، وعبر ابتسامته، يُبلغك السَّلام والتَّحية، لأبصر في عينيَّ أمي، أن ثمة شيء كبير، مُتعلق في حروف اسمك، استشفه في عينيها وكلماتها البسيطة، لأجدك تتمتع بكاريزما، تُميزك عن الآخرين.
إليك أيُّها الأب، لتعذر هذا التيه في لغتي، لأضع وجنتيَّ على ظل أمي، لأقول لها: لقد فارقت روح “أبو مُحمد” يا أماه، فارق دُنيانا إلى حيث هُناك، هل أخبرتيه أن يُبلغ زوجته “أم مُحمد” سلامك، هل ذرفت عيناك على فقدها وفقده، هل دُموعك الآن، تُعانق بعضها.
يا أماه، رحل الجار الغالي، رحل من كان خادمًا للنَّاس، الذي يُطبب آهاتهم، من كان لهم الأب الحنون، رحل يا أماه، من كان صوت أذانه، يُخبرنا بأنَّه قد حان وقت الصَّلاة، قد حان وقت العشق، والولوج في الخُشوع والذّكر، وقد رحل يا أماه، من كان يجلس على كُرسيه في المسجد، يتأمل أعيُننا، يبعث في قلوبنا الطُّهر بأنفاسه الإيمانية، ورحل يا أماه، من لا يكلّ أو يمل من المُبادرة، ليُحني جسده المُتعب، ويلتقط ما سقط على ساح المسجد حُبًا وكرامة، لإيمانه أنَّ خدمة بيوت الله شرف، لا يتشرف به إلا من حباه الله بلطفه وتوفيقه.
إليك أيُّها الأب، يا أجمل وأروع قصة نجاح، أيُّها العاشق الخدمة في ركاب الصالحين، أنا هُنا لا أكتب مرثية عزاء، وإن كُنا لفقدك محزونون، ولكن، جئت هُنا، لأكتب بقلب مُنكسر، يبكي على فقد الأب والجار، والرَّجل المُؤمن، لأكتب عن الأصابع البيضاء، التي تربت على كتف المُعوزين وأصحاب الحاجة، لأكتب عن الرَّجل، الذي عشق المسجد، ليكُون أنيسه، لأكتب عن الحكمة، التي تنساب من شفتيه.
أنَّا هُنا لأكتب عن وجعنا لفراقك، لأرثيك في ذاتي، وفي كُلّ ذات، تعشق الإنسانية وخدمة النَّاس، وتحمل في مسيرتها المُعاناة والصّعاب، والإحساس بالمسؤولية، لتشق خُطاها واثقة، زادُها الإيمان بالله، والعمل الصالح، ودُعاء المؤمنين.
لقلبك الطُّاهر السلام، ولأسرتك العزيزة، وقُديحك وأهلها، كُلُّ المُواساة بفقدك.