كيف أخشى الفقر وأنا عبدالغني؟

اسمح لي أبا عادل أن أتملى ملامحك، وأتقرّى وجهك.

وي! كأن صورتك الملائكية غابت عنا، ونحن نحتفل الليلة بأربعين غيابك القاسي علينا.

كلا، وإنما مقصودي التملي في ملامح زمن جميل، عشت بين زواياه الاجتماعية وترعرعت.

أذكر تمامًا أول مرة صافحت عيناي عينيك، كانتا دامعتين، فقد عدنا للتو من وداع والدك. الشخص الذي لا تدري يساره ما أعطت يمينه. ورغم أنه تهيأ لوداع الأهل والأحبة على سرير المرض بمستشفى أرامكو كما تهيأت إلا أن والدي بكاه بعيدًا عن أعين المشيعين بكاء مرًا، كما بكاك ابنه بكاء مرًا بعيدًا عن أعين المشيعين.

كنتُ في مدارج الصبا، عندما سمعت عن عبدالغني السنان..وقد سقطت على القلب سقوط الندى، فانتعش بمكارم أخلاقك السائرة بين الحضر والبدو، وكأنك أمثولة من الأماثيل.

ولطالما سألت والدي وهو يطوف بي أندية صحبة. وأين هذا العبد الغني. إنني أكاد أشم ريحه العبقة، مع كل قافلة تحمل عمال الشركة وموظفيها، بين إطلالة الفجر ومولد العشية، غادين آيبين من القطيف إلى الظهران وبالعكس. فهذا حصل على وظيفة بتوصيته، وآخر تساهلت الشركة في إبقائه على رأس العمل ببركة منه. وثالث حظي بنصيب من راتبه لقضاء حاجاته في سعودي كامب، ريثما يؤمن له موطئ قدم في أرامكو، التي أحدث قيامها في جبل الظهران ما أحدث، من متغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية في نسيج نظام العلاقات الاجتماعية بالمنطقة الشرقية. بل معظم أقاليم المملكة، وقد توافد بعض أبنائها -بدو وحضر- يجربون حظهم في التثاقف مع هذا النقيض الموضوعي، الذي بدل من زمن الناس الساكن في الجزيرة أي تبديل.

غيّر في نمط حياتهم وأسلوب معاشهم أي تغيير. كيف لا؟ وقد جاء إليهم مع أرامكو على حين غرة العالم الحديث بكل ثورته في تقنية البترول وصناعاته التحويلية، وهندسة المجتمع وإعادة إنتاج القيم، لتخض مجتمعاتنا المنعزلة على مدار التاريخ، والمتناثرة بالطبيعة الصحراوية خضًا عنيفًا.

هل لهذا طفقت مجتمعاتنا في المملكة الوليدة، تنظر إلى هذا القادم الجديد من وراء القارات والبحار، نظرة الشك والترقب والحذر، قبل الولوج في عوالمه التي انطوت على ثقافة التنظيم والعلم والحداثة والمعرفة، مغلفة بفردوس استهلاكي أخاذ؟

كان هذا الفردوس يتمثل في أعيننا وأفواهنا وعقولنا – إذ ذاك – بكل منتجات الثقافة الأمريكية من عروض سينمائية جذابة، وأطعمة وأشربة بما لا رأت عين ولا خطر على قلب بشر.

تذكروا معي أيها الجيل المخضرم كيف كان شراب البيبسي كولا المثلج منعشًا بلا حدود. وكيك الفانيلا أو الشوكولاتة وهو يذوب في الفم كشفاه فتاة بكر.

أما ما له صلة بتربية العقل الاجتماعي وتنمية الفرد، فقد تجسد في مدارس أرامكو ومكتبتها وتلفازها، وتطعيماتها الصحية وحملاتها التوعوية مع قطعة من بسكويت التين ضد الأمراض المستوطنة.

ما لي ولهذا وحديثي ينصب على شخص انضم إلى قافلة أرامكو؟! نعم. لما أقوله – هنا – صلة فمن كان يذهب عاملًا في الجبل، يتأثر في الغالب بما يسميه علماء الاجتماع الثقافي بالصدمة الحضارية، فيعد لهذا شخصاً خرج على النمط الاجتماعي والسياق الثقافي، حين يتأمرك في اللهجة والملبس والمسكن.

أما عبدالغني السنان، فكان مع قيافته العصرية، ووجهه الأبيض الحليق دون لحية ولا شنب، إلا أنه لم يَحِد عن قطيفيته وعروبته وإسلامه قيد شعرة. فلم تغيّره المدنية بمظهرها الخلاب، وإنما فجرت في نفسه ينابيع المعاني وعيون القيم.

دائمًا ما كان يردد على مسمعي في أماسي الخميس، عندما تتسنى لي زيارته في مجلسه العائلي، مقاطع من شعر شكسبير، وصفحات من ميثولوجيات أوروبية وأمريكية في التغني بالقيم الإنسانية. كما أنه دائمًا يحدثك في نفس الوقت عن مثيلاتها، وقد اقتنصها من زميله الآتي من هجرة نجدية، أو قرية في القصيم، أو مدينة في الحجاز.

كان الكلّ في الشركة ممن زاملهم أو تعلم منهم، أو ممن تتلمذ على يديه، هم في قلبه سواء في المحبة الإنسانية، دون تمييز في المذهب أو الإقليم أو العرق أو الطبقة.

كل هؤلاء بكوك يا أبا عادل، عندما بلغ أسماعهم نبأ رحيلك في هذا الزمن العظيم.. لأنهم بكوا فيك شمائل الرجولة، وأريحية العطاء.

مساعدة المحتاجين دون منّ ولا أذى. ومساعدة الباحثين عن فرصة عمل، أو دخولية إلى المستشفى دون دعاية في (النت) أو ادعاء في الأندية وصخب في المجالس.

كنت تعمل كل ذلك بصمت ونكران ذات وفوق الباعث الإنساني أو الوطني، كان يدفعك إليها الباعث الديني. ففي كل خطوة عمل كنت ترجو رضا الله وثواب الآخرة.

ولا تسألوني عن صلواته وصيامه وأعمال بره، فهو يمارسها بمحبة الصوفي وعشق المتهجد وخوف المخبت.

فهل لمشاعر الشعراء وكلمات الكتّاب، قدرة الغوص على تناول درر السجايا الثمينة والأعمال النادرة، إلا في بحر من قال: كيف أخشى الفقر يومًا وأنا عبدالغني؟!

يا لها من حكمة صوفية تمثلتها طوال حياتك بسجية طبع كريم، وكأنها تختزل ملامح تجربتك الإنسانية الناصعة.

ألم أكن محقاً بعد هذا حينما طالبت في بدء كلمتي التملي في ملامحك وتقرّي وجهك، الذي غاب عنا، لكن معانيه ستبقى تساجلنا وتطل مرفرفة علينا، ما حيينا.

فلك الروح والريحان وجنات النعيم.




error: المحتوي محمي