الآتي.. لحوم مستَنبَتة في المختبر!

لحوم مجهزة، لحوم محفوظة، لحوم مخلوطة، لحوم نباتية، لحوم مزيفة، لحوم مستنبتة، سلسلة من المنتجات المستجدة، وعلامة من علامات التحضر، زد على ذلك لحوماً مشابهة للطبيعة، وهذه قد تنسينا طعم اللحوم الطازجة والأطعمة التقليدية التي تقبل عليها النفوس، سيكون على الناس أن يعتمدوا على تحولات مستقبل الغذاء، وصار مألوفاً أن ترى الناس من يطلبون هذه النوعية من اللحوم، لسد الفجوة في اللحوم الطازجة التي أصبحت سلعة ترفيه بسبب ارتفاع أسعارها في مقابل لحوم رخيصة الثمن ووفيرة وأكثر استدامة.

في الأفق المنظور يبدو أن العقد القادم يحمل في جعبته تحولات جديدة تتعلق بتنويع مصادر الغذاء، ورسم خارطة مستقبل الغذاء تعول على نتائج الاكتشافات، التي تمت في علم المورثات الغذائية واكتمال سلسلة الجينوم، إلى جانب معطيات التقنية المتقدمة.

لقد وفرت مدنية القرن الواحد والعشرين فيضاً في إنتاج المواد الغذائية، وقضت علومها على عدد من الأمراض والأوبئة، لكنها كانت أرضاً خصبة لانتشار أمراض جديدة ستكون الشغل الشاغل لأجيال المستقبل.

وكان السؤال المطروح بإلحاح أمام علماء السكان والتخطيط والاقتصاد: هل ستكون الموارد الطبيعية قادرة على اللحاق بالتزايد السكاني المطرد في العالم نتيجة تقدم الطب والعلوم وارتفاع المستوى العام للمعيشة؟ ولم تكن هذه التساؤلات جديدة، بل كانت صدى لكتابات عديدة تنبأت بأن العالم مهدد بنضوب موارده الطبيعية ومقبل على أزمات اقتصادية ومجاعات وأوبئة، وكانت تندر البشرية بالويلات وبعظائم الأمور.

أعداد متزايدة في العالم تعبر عن رفضها أو خوفها من المستقبل الغذائي والموارد الطبيعية ولم تقتنع بحجج الشركات ومراكز الأبحاث التابعة لها والقائلة إن البشرية تواجه عواقب سيئة على صعيدي الصحة والبيئة نتيجة زيادة عدد السكان والغازات المنبعثة من الحيوانات التي تشكل نحو 35 % من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان في العالم، كما أن هذه الحيوانات تستهلك من المياه كميات كبيرة باتت تقلل من تلك المخصصة للشرب والزراعة، هذه الشركات المتبنية لهذه الحجج ستلعب دوراً كبيراً في تحديد ما سنأكله في العقد القادم.

إن لثورة التقنيات الحديثة ضريبة يدفعها الإنسان من صحته، وما تقنيات زيادة توفير الغذاء إلا مفردات لهذه الثورة.

يتوقع المهتمون بالمستقبليات، أن التوجه العام سيكون نحو الاستعانة بعلم المورثات الغذائية في تطوير صناعة الغذاء، ولعل أحدث صيحة في عالم المورثات الآن هي تلك اللحوم المخبرية التي أطلقوا عليها “اللحوم المستَنبَتة”.

هل سنرى قريباً مثل تلك اللحوم على موائدنا؟

هذا ليس بسؤال افتراضي أو على سبيل المزاح بل حقيقة داهنة يجب علينا التّفكير بها جدّيًّا.

فعندما نعلم أن شركات الدواجن العالمية الكبرى مثل الشركة الأمريكية Eat Just، أنتجت في مختبراتها أطناناً من اللحوم مستنبت من خلية واحدة، عندها لا بدّ لنا من الإقرار أنّ هذا الحدث قادم إلينا ويجب الاستعداد له وربّما قريباً أيضاً، حيث تم البدء بتسويق منتجات هذه الشركة في مطاعم الوجبات السريعة في سنغافورة.

تصوروا لحماً بدون عظم خالٍ من المضادات الحيوية والهرمونات، نقية معقمة صحية وصديقة للبيئة، ولها نفس خصائص لحم الدجاج الطبيعي، هل يعقل ذلك؟!

هل يمكن لعلم الجينات أخذنا بهذه السرعة إلى عالم استنبات اللحوم؟

ثم هل يمكن للمستهلك أن يتقبل ذلك ويرى اللحم المستنبت على مائدته؟

لكن من يكترث؟ يقولون لنا إنه يجب التحضير لإطعام أكثر من عشرة مليار نسمة فكيف نواكب التقدم والتكنولوجيا إذا بقينا على حالنا هذه؟

الحقيقة تقال: في يومنا هذا نرى من الناس لا يهتمون لجنس اللحمة وهويتها، المهم لهم هو فقط إمكانية الوصول إليها.

وفي هذا الاتجاه ومن أجل البحث عن بدائل، كان فريق من علماء جامعة ماستريخت في هولندا يقوده مارك بوست أعلن عن التوصل إلى لحوم حمراء داخل المختبر، أطلقوا عليها “اللحوم المستَنبَتة صناعياً”، الطعام الجديد يسمى “بورجر أنبوبي”، حيث قاموا بزراعة شرائط من النسيج العضلي، باستخدام الخلايا الجذعية المأخوذة من الأبقار، ويقول د. نيل ستيفنز، من مركز أبحاث “إي. إس. أر. سي. سيساجين” التابع لجامعة كارديف البريطانية: “مضت عشر سنوات والعلماء يعكفون على أبحاث ودراسات خاصة باللحوم المختبرية، وحققوا في ذلك نتائج طيبة، لقد صرنا قاب قوسين أو أدنى من إنتاج وتسويق لحوم مختبرية، ستكون جزءاً من وجباتنا الغذائية في السنوات القادمة، إنها صحية وأقل ضرراً بالبيئة”.

وكانت دراسة حديثة لفريق بحثي في جامعة أكسفورد أفضت إلى أن إنتاج اللحوم في المعمل والحد من ذبح الحيوانات يمكن أن يقلل بصورة كبيرة من الغازات الدفيئة، وكذلك من استخدام الطاقة والمياه.

الاستهلاك المرتفع للحوم له عواقب سيئة على صعيدي الصحة والبيئة ؛ فهناك 1.1 بليون نسمة يعانون من زيادة الوزن، كما أن حيوانات المزرعة من دجاج وماشية تستهلك من المياه كميات كبيرة باتت تقلل من تلك المخصصة للزراعة، ونتوقع ازدياد اعداد سكان الأرض إلى 10 مليار خلال العقدين المقبلين، ونحن نعيش في بيئة ملوثة وصحة هزيلة.

العلماء يؤكدون أن اللحوم المستَنبَتة صناعياً والطحالب البحرية ستحتمي بها البشرية من خطر الجوع في العقد القادم، ويقول الباحث البريطاني دينيس وينترمان إنها ستوفر حلولاً حقيقية لكثير من مشكلات العالم الأكثر تعقيداً، ومن بينها نقص الغذاء.

(المصدر: مجلة غذاء ودواء، تصدر عن الهيئة العامة للغذاء والدواء، العدد الأول، نوفمبر 2014).

انتشار مطاعم الوجبات السريعة وشغفنا المتزايد عليها تستحق التوقف عندها، أصبح أمراً مخيفاً وخطراً، هذه الوجبات الجاهزة ذات الصبغة التسويقية والتركيبات المعقدة، يتفنن الصانع في إعدادها، تدخل في تركيبها لحوم ودجاج غير معروفة المصدر، وخلطات سرية ومضافات اصطناعية ومعظمها مستوردة من الخارج، وجبات خاوية محشوة بالمواد الضارة ترسبت في أمعائنا، وأضعفت مناعتنا، وهددت حياتنا، وما أدرانا بأن شركات الأم والتي تحمل الأسماء العالمية المعروفة قد لجأت إلى استبدال اللحوم التقليدية بلحوم مزيفة أو مخلوطة أو مستَنبَتة، يكفي المرء أينما كان أن يدقق النظر قليلاً في طبيعة هذه الوجبات ليكتشف إلى أي حد بتنا نسمع عن أمراض ما كنا نسمع بها أبداً، وموتى لأسباب غريبة! إنها من سلبيات الزمن المعاصر.

قطع اللحم والدجاج المستَنبَتة غير ملائمة أبداً للصحة، حيث يعتبر محتواها مخالف لقانون الطبيعة، حتى الحيوانات آكلة اللحوم لا تقربها، وسبحان الله الذي ألهمها غذاءها الطيب من الخبيث، فمن الأفضل تجنب أكلها.

قد يقول قائل لماذا هذه الوقفة حول قضايا لا تعنينا؟ المشكلة هي تسارع وتيرة الاكتشافات العلمية والفكر الموجِّه لنمط الحياة الحديثة، هي سلسلة من التحديات ضد الإنسانية، وإذا كان في الدين بأحكامه الشرعية يساعد على مواجهة هذه التحديات، فاللحوم التي نستهلكها اليوم بحمد الله تعالى تحت ضوابط شرعية، لكن الذي يقلقنا هي المخاوف من لحوم مطاعم الوجبات السريعة، تثار دائماً حولها تساؤلات: هل دخلت تلك اللحوم في إعداد وتجهيز الوجبات السريعة؟ وهل نحن في مأمن من تلك الوجبات؟ وما أدرانا بأنها لم تدخل؟ وهل حقاً اللحم الذي نأكله لا نعرف مصدره؟

في الوقت الذي يضيق فيه الكثيرون من تناول الطعام في المنزل، هناك من يفضلون عكس ذلك، من البديهي أن شراء اللحوم الطازجة من محلات موثوقة وذات سمعة جيدة، وإعداد الطعام في المنزل هو أسلم الطرق للحصول على أغذية صحية ومأمونة، تناول طعامك خارج المنزل يتطلب منك أن تختار المطعم الذي تأكل فيه بعناية، وكذلك تختار وجبتك بعقلانية، والأهم من ذلك التأكد من مصدر اللحوم والدجاج وحليتها.

الحاجة ملحّة لبيان خطر المنتجات الغذائية المستجدة، خطراُ يحدق بحياتنا، هناك بعض من الناس لا يعطي اهتماماً كافياً أو قد يهمل في مسألة الحلال والحرام، خصوصاً في هذا الزمان الذي كثرت فيه أنواع المطاعم والمشارب واشتبه فيه الطيب بالخبيث، وكثر التهاون من بعضنا في التحقق من ذلك والتثبت فيه، إنها تحولات في مجتمعنا، تمرُّ علينا ولا نقف عندها لنبحث في تفاصيلها، وبالذات لم نقف عند مفهوم الطعام الحلال، لقد تبدَّل حالنا، فاللحوم نأكلها ولا نسأل عن مصدرها، والأغذية المعبأة لا نقرأ مكوناتها، تلك المكونات التي قد تكون من مصادر حيوانية كالجيلاتين والمستحلبات والإنزيمات والدهون والتي تؤخذ جميعها من مخلفات المجازر، وهذا كله أودى بنا إلى أمراض صنعناها بإرادتنا الكاملة.

التلاعب بصحة الناس بإغراق السوق بآلاف الأصناف الغذائية ومستحضراتها والوجبات السريعة ومطاعمها وما تحتويها من مواد ضارة، أدى كل ذلك إلى تحميل جسم الإنسان الكثير من المخاطر الصحية، المعروف منها والمجهول، وأحدث خللاً وإرباكاً في قدرة الجسم على مقاومة الأمراض المستعصية في مقدمها مرض السرطان وأمراض ضعف المناعة، نحاول هنا وضع ضوابط وقواعد تساعد في حماية المستهلك من خطر تلك اللحوم والمنتجات الغذائية مع صعوبة إصدار حكم شرعي عام، إلا أن هناك شريحة من الناس قد اختارت طريقاً آخر وهو التثبت فيما يأكلونه.

بحسب المتفق عليه في الأوساط الاختصاصية بالغذاء أن كلمة السر في التغذية الصحيحة تكمن في اللجوء إلى مصادرها الطبيعية، تحولات الطعام في العقد القادم كما أشارت نتائج دراسات وأبحاث أكاديمية حديثة متعلقة بالغذاء والتغذية سوف تستهدف بالأساس ما نأكله على صحتنا وعافيتنا، وعلى خارطة تشكيل مستقبل يأكلونه لكن ماذا عن إمكانية وجود آثار جانبية ضارة؟ قد ننتظر عشرات السنين للتأكد من وجود آثارها السلبية.

هذه الصورة السوداء في عصر الجينات وهندستها، عصر نتج عنه انقلاب غذائي كبير تتجاذب أطرافه معطيات الحياة العصرية، وقفنا محتارين أمام ما يقدم لنا من عقد تحولات الطعام، وتراجع الطعام التقليدي، أو تمر عليه الأيدي مرور الكرام، لقد تبدَّل حال الغذاء وأصبح في ذاكرة الأجيال، وجرينا وراء كل جديد، نقبل عليها رغم تفاصيلها المأساوية، في كل يوم تخرج من المختبرات أنباء جديدة عن إنجازات غير مسبوقة، نعم أصبحنا ننفق المال لإصلاح الخلل في أجسادنا من هكذا مصائب.

أما آن الأوان لأن نراجع أنفسنا في هكذا أغذية، فالقضية ليست قضية علوم وتطورها، ولا هي قضية استهلاك مفرط يؤدي إلى اختلال موازين الطبيعة، القضية هي في الدرجة الأولى تتعلق بنظرة الإنسان إلى نفسه.

وأخيراً، لا أحد يدرك إلى أين تنتهي بنا متشابكات العلوم ومعطيات التقنية المتقدمة والهندسة الجينية التي أصبحت تثير الخوف والأمل في مختلف مجالات الحياة، أصبحت واقعاً تجارياً واحتكاراً وسيطرة الشركات العملاقة ومعامل التجارب الجينية في غذاء الناس ماثلاً للعيان، وصار كثير منا وهو يتناول وجبته الغذائية يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن تكون وجبته الأخيرة.

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي