الجهالة

لم تعد الأمّية مقتصرة على الذي لا يحسن قراءة الكلمات بل تسلّقت إلى مستوى قراءة الشارع والمجتمع واحتياجاته وما فيه من تناقضات إيجابيّة وسلبيّة.

لذا نلحظ أن الأمية اقتربت بوضوح إلى معنى الجهالة، والتناقض المخزي أن يوضع في مكان العالم بعلمٍ ما أو المدير، الجاهل من لا يعلم سبله ومحتواه.

أسطوانة الرجل المناسب في المكان المناسب من المفترض أن يكون ذات أسس ومصدر ثقة ونزاهة غير خاضعة للزيف والإقصاء الذي يحدث غالباً في الأجواء التنافسيّة الفئويّة عندما تتشتّت القراءات وتكون العلاقات والشخصنة هي المرجّحة لاختيار صاحب المنصب، كما ترجّح الميزانية المحدّدة إجراءات اختيار خدمة ضرورية، ويتم حينئذ قبول الأقلّ كفاءة وجودة.

التربية والتعليم لأبنائنا الطلبة والطالبات جزء مهم منها يقع على عاتق مدرّسي ومدرّسات المرحلة الابتدائية ثم المتوسّطة الذين تتفاوت مستوياتهم بلا شكّ، في الوقت الذي نرى أن تأهيل الكادر التعليمي من مسؤولية ذوات الأفراد والمنظومة التعليمية، وهذا لا يلغي أهمية سعي الوالدين لاختيار المدرّس المربّي ذي الكفاءة.

من الجهالة أن نهتمّ في المراحل الأولى بالحشو التعليمي دون خلق بيئة قوية مرحة وجاذبة تساهم في زرع اللّبنات التمهيديّة الدّاعمة لمسيرة الأبناء التعليمية، ونحن نعلم أن مرحلة البناء الأساسيّة هذه تستلزم جهوداً مضاعفة من جميع الأطراف ذوي العلاقة.

ثمّة لغط يحوم مع جواب “لا أعلم” من الأميّ ومن المتعلّم لصعوبة نطقها بشكل عام وترادفها مع الجهالة، مما يؤدي إلى وقوع الفرد في دائرة التقمّص والتدخّل فيما لا يعنيه وما يترتّب على ذلك التدخّل – لفظاً أو عملاً – من تجاوزات ومشاكل.

وإذا كان موظفو شركة الكهرباء ليسوا على علم بمشاكل التسليك الكهربائي المنزلي المتعدّد، ولا كل موظفي هيئة الاتصالات على معرفة بالأحياء المغطّاة بالشبكات، فمن البديهي كذلك القول إن قيمة الشهادة الأكاديمية محدودة دون الخبرة التنفيذية الميدانية، وإن طلبة العلوم غير مؤهلين للبحث والإجابة خارج نطاق دراساتهم وتخصّصاتهم، ومن الجهالة توقّع الإجابة عن كل أمرٍ ممن يتواجد فيه.

إن الإجراءات الإلكترونية متى ما بُرمِجَت بشكل انسيابي مبسّط هي تساهم في تسريع المعاملات ولا تقضي على الجهالة ولن توقف طموح الموظفين المخلصين عن كسب مهارات التطوير والتحسين المستمر.

ولا جدال أن كل تقدّم يحمل مع مكاسبه مخاطر حين يُزاح ذوي الخبرة عن مهامهم نظير ضعف إلمامهم بالمحتوى الإلكتروني وإسناد المهام ذاتها بالنمط الحديث إلى ثلّة محدوديّ الخبرة يتيهون مع أي حاجة إلى الخروج عن المسار المحدّد لهم إلكترونيّاً لأنهم يجهلون ركائز المهام والأعمال، لذا الدمج بين أصحاب الخبرة والدماء الجديدة يحتاج فترة مقبولة كافية لانتقال المعلومات الأساسية قبل الإزاحة والإحلال.

من أوجه الجهالة التسرّع في الحكم وسوء الظن ونتائجه التي تختلف حسب العلاقة الاجتماعية أو المهنيّة والخدماتية، وأيسرها القراءة السطحية لما يتداول من معلومات وأخبار وما تسحب معها من ترجيح موقف على آخر، ممن لا ناقة له فيها ولا جمل.

بشكل عام، الظن الإيجابي يجب أن يقدّم على ما عداه ما أمكن والسوء والإساءة والخطأ هذه الأمور تتحقّق بشواهدها وليس بقراءات خاطفة خاطئة تهدم العلاقات وتكسب الإثم وتنخر في ترابط المجتمع، والجهالة تولد كلا القسمين؛ المادحون بشدّة والمتشائمون بعنف.

الأجهزة الإلكترونية هل حاربت الجهالة أم ساهمت في تفشّيها؟ من أنه لا خلاف أنها سهّلت البحث والحصول على المعلومة للجادّين إلى أنها من جهة أخرى حوّلت اللقاءات الاجتماعية إلى صور شكلية خالية من الأحاسيس منغمسين حتى النخاع تحت سيطرة الألعاب والبرامج اللّا اجتماعية.

قدرات العقل البشري أعلى من الآلة، لذا من المفترض ألاّ نحصد النقيض وتنتصر الأجهزة والآلات وتشلّ العقول وتهدر القدرات والإمكانيات.

هل ساهمت الكتاتيب في القرن الماضي ورياض الأطفال في هذا الزمن في دعم التعليم التمهيدي؟



error: المحتوي محمي