لصُوص النّعرات.. صوت من أعماق المجتمع

اعتاد الدكتور فراس أن يتناول قهوته مع الدكتورة منال كلّ صباح تجمعهما طاولة واحدة في مقهى المشفى، يرتشفان قهوتهما معًا.

عرفهما الجميع كثنائيّ مُبدع يتصفحان ملف المريض ثم يوجهانه بأدب جمّ.

كلاهما يستمعان لملاحظات زملائهما في المهنة بحب وانتباه، يتجنبان نقد زملائهما أمام المرضى ويتبادلان الاستشارات الطبية بكل احترام وتقدير.

يكنّ الدكتور فراس كل الحبّ والتقدير للدكتورة منال المتزوجة من قريبه جاسر.

أحبّ الدكتور فراس الدكتورة منال منذ اليوم الأول لدخولها المشفى، ولكن ظلّ ذلك الحبّ حبيسًا في إحدى غرفات قلبه المُحكمة بإتقان.

أما الدكتورة منال فقد نشأت في أسرة فقيرة، وقد كان هدفها الوحيد في الحياة إكمال تعليمها فاجتازت جميع صعوبات الحياة حتى وصلت لما هي عليه الآن. كانت صديقتها نهى ترقب إنجازاتها وسيرها الحثيث نحو النجومية العلمية في المجتمع فسارعت بخطبتها لأخيها جاسر.

مرت الأيام والسنون ومنال ترقب معاملة جاسر السيئة لها والمقرونة بالتهكم والسخرية على أسرتها الفقيرة، وكم صادفت الكثير من التهميش أثناء اجتماعاتهم الأسرية.

لقد عُرفت أسرة جاسر بالنعرات العصبية والتشدد القبليّ، فكانوا لا يتزوجون إلا من سلالتهم ذات الشأن الاجتماعي المرموق بتفكيرهم المحدود، إلا أن دخول منال في هذه العائلة كان من الأخطاء الجسيمة التي كان جاسر يعتقد أنه قد ارتكبها، وبالرغم من أنه تمّ اختيارها لمكانتها العلمية إلا أن ذلك لم يشفع لها عندهم، فطالما كان الاستهزاء بعائلتها ووالدها الفقير يأخذ طريقه بشكل الهمز واللمز لديهم.

لقد كانت دموعها تنهمر أمام الدكتور فراس في مناوبتها الليلية حيث الهدوء يخيّم على أرجاء المشفى، تصف حالها قائلة: “لو سبرتَ أغوار نفسي لن تجد سوى الألم المقرون بالشوق لطفل يُنسيني تلك الحياة القاحلة مع زوج لم أعرف معه سوى العجرفة والتسلّط، فجاء رصيدي ضئيلًا جدًا من السعادة التي رسمها القدر لي”.

وكان فراس متعاطفًا معها كثيرًا، بل كان يحاول ضبط مشاعره نحوها خشية الانفلات وغالبًا ما كان يحتويها بدروس مكثفة في الصبر وإن كانت لهجته الحادة تكشف عن غضبه أحيانًا من منال ليواجهها بسيل غاضب من الكلمات قائلًا: منال، بتُّ أكره تلك الفجوات بين أفراد المجتمع ومازلتُ أقول لكِ: أنتِ لست في سوق نخاسة، لا تساومي على إنسانيتك بثمن زهيد، مازال هناك الوقت الكافي لتخرجي من دوامة هذه الأسرة لتركضي أمام الأبواب المشرّعة أمامك.

الدكتورة منال: رويدك يا فراس، لا تضيق عليّ الخناق، وأشفق عليّ من حديث إذا خرج من قلبي فسوف يؤذيني وإذا بقى رهين المحبس سيقتلني.

رحلت بي خواطري نحو القمر في اكتماله يذكرني هدوء الليل بأنوثتي الصارخة حين اكتمالها، لكنها ضلت طريقها فانتزعها مني لصوص النعرات بمحض إرادتي.

أصبحتُ أكره جسدي، تطايرت منه روائح نفاياتهم البغيضة بل إنهم في كل يوم يحفرون لي قبرًا وأشاركهم في حفره باستكانتي وخضوعي.

كم أكره صراعهم المستمر حول هَيْمَنَة نُفُوذهم المزيف!

لقد طوى حديثي مع القمر ذلك النّداء الذي شقّ الأسماع بأصوات مكبرات الإسعاف، أسرعتُ الخطا لقسم الإسعاف، يتبعني الدكتور فراس، هناك حالة طارئة، أحدهم يغرق في دمه جاء بحادث مؤلم.

طارقٌ جاء في منتصف الليل، جاء مُحمّلا بالألم والأسى، تعالت صيحاتي عندما أبصرته، خاطبت قلبي: افعل ما تؤمر أيها القلب ستجدني بإذن الله من الصابرين!

بدأت قيثارة آلامي تعزف أنواع الألم على زوجي المسجى أمامي دون حراك.

كان قلبي يخفق بشدة بين الحب والواجب لإنقاذه، مرّت في ذاكرتي لحظات حفل زواجي وخريف حياتي مع هذا الزوج.

هل أنا الطبيبة أم الزوجة المكلومة؟

اختلطت الأمور، لم أشعر بنفسي إلا وأنا في السرير الأبيض وبجانبي الدكتور فراس.

كانت ليلة مُضنية، حمدت الله تعالى وأغمضتُ عينيّ لأستلهم من المجهول قوة أجابه بها الشقاء والاستسلام لفاجعة فقد زوجي.

أيها الزمن قف بي لتضع نهاية سعيدة وتكون رسولًا للضياء الذي سوف يبدد عتمة حياتي، بدأ شعاع الشمس يؤنس وحشتي، وعاودتْ أنهار الحياة الفاتنة تقطع ألحان الصمت التي تغنيتُ بها كثيرًا في أمواج الوحدة.

خاطبني بحب: هيا انهضي أيتها الكسولة، أمامنا عمل طويل.

قلت له: بجانبك أشعر بجمال العمل، أصبحتُ حرم الدكتور فراس، لقد تقدم لخطبتي بعد موت جاسر، وقد وافقت على الزواج بعد محاولات عديدة لأنني كنت خائفة من تكرار تجربة الزواج البائسة تلك، لكن فراس يختلف كثيرًا عن جاسر، فقد كنتُ أشعر معه أن العالم امتزج بجميع أنواع السعادة.

البسمة لا تفارق محياه، يمدني بقوة عجيبة في المشفى وفي المنزل، حبه العميق يتسلل صوب روحي ليحيلها جنّة وارفة الظلال.

عشت مع فراس أجمل سنوات عمري، نبني أحلامًا، نكبرُ واقعًا، أمسكنا مجاديف الحياة. نبحرُ سويًا ونبدع في رصف كلمات الحب والتضحية كلّ للآخر. وبجانبنا أولادنا الذين شقّوا طرق الحياة الوعرة معنا، فغدونا أسرة متماسكة قوية لا يهزها ريح عاصف، وتمضي في طريقها بثبات وسعادة.



error: المحتوي محمي