وداعًا يا رفيق الدرب

أن تكون سادرًا في مشاغلك، ملتهيًا في أمور حياتيك اليومية، وتتفاجأ بخبر يصدمك بعنف، يهز كيانك، يأخذك بأسى دون حسبان، حينئذ تتوقف عن الحراك، يشل التفكير ويبهت الإدراك، ما أقسى على النفس أن تبلغ برحيل أحد الأحباب القريب منك روحًا وعاطفة ووجدانًا، عندها تتبدل مشاعرك رأسًا على عقب، وتتلون بحجم المصاب.

بعد ظهر أمس توالت الأخبار الحزينة برحيل شخصية تشكيلية معروفة عند الكثيرين من نساء ورجال ولاسيما الفنانين والفنانات في كل محافظة القطيف وما جاورها، كل آلمه الخبر المفجع الموزع في الصحف الإلكترونية المحلية.

(الحاج محمد الحمران في ذمة الله، انتقل إلى رحمة الله تعالى الفنان التشكيلي محمد هلال الحمران بعد معاناة مع المرض.. إلخ)، نعي موجع مبكي عند جميع الأصدقاء والزملاء وكل من عرف الراحل قربًا أو بعدًا.

عند ورود الخبر في دقائقه الأولى، ضجت كل قروباتنا الفنية بمختلف مجالاتها بالتعزيات، سرت حالة من الحزن والأسى في نفوس الجميع، بعض غير مصدق، وآخر مسلم بالأمر، وما بينهما عبارات الترحم وبث محاسن الصور وجميل الذكريات.

إيه يا أبا قاسم أصحيح رحلت عنا بالأمس، أصحيح وجهك المحمر فرحًا المبتهج نضارة غاب عنا للأبد، كيف ننعاك وبأي صورة نرثيك، وبأي كلام نذكرك؟

وكيف لي أن أنعى من كان قريبًا مني همه همي وقلقه قلقي، وأيضًا قريب من أعزاء أعرفهم بالاسم، كيف أعزيهم في شخص يعرفونه حق المعرفة، إنسان حمل الروح الجماعية على عاتقه ولم يكل ولم يمل وحتى وهو على فراش المرض، يسأل عن أخبار نادي الفنون بالقطيف وبالأخص عن كل مستجد حول جماعة الفن التشكيلي التي ترأسها لفترتين زمنيتين مختلفتين تكادا أن تكونا متقاربتين، رئاسة صرفت من جهده ومن وقته وحتى من ماله! في سبيل الإعلاء من شأنها ورفعة مكانتها حضورًا في ربوع الوطن.

محمد هلال الحمران ذلك الإنسان البسيط العفوي الذي يخاطبك دون كلفة ولا تصنع، الممتلئ حماسة، والمتوثب نشاطًا، كم أعطى وقدم خدمات باسم الجميع خلال ترؤسه جماعة الفن التشكيلي.

إنه شخصية مقدرة محبوبة لكل من تعامل معه وكل من عرفه وجهًا لوجه، ديدنه الإخلاص والصدق والمثابرة والعطاء بصور شتى. سيرته عطرة محملة بصور وضاءة شهدها كل أعضاء جماعة الفنون، حمل الريشة في يد وفي الأخرى تحمل المسؤولية، ما أعجب تلك اللحظة الحاسمة، حينما التم الجمع في الجلسة الدورية المعروفة بـ”خميسية الأحبة”، وكانت ليلتها في رحاب مجلسه بالدخل المحدود، كنا مجموعة من الرفاق الفنانين، وبين ضحك ودردشة، ومساجلات فنية، توقفت الأحاديث والتزمنا السماع، تحت تأثير دعوة الأب الروحي لجماعة الفنون التشكيلية الأستاذ علوي الخباز بسؤال المعاتب المحب “هل يرضيكم وضع الجماعة الحالي والمتباطئ نشاطًا، وكيف تسير أنشطة من دون رئاسة وخطة عمل مستقبلية، هل عجزتم عن تولي المهمة، بالتصدي لدور القيادة، ما في أحد منكم يمسك رئاسة الجماعة، وإلى متى هذا الفراغ سوف يظل، ما هكذا الظن بكم، اتركوا عنكم حالة عدم اللامبالاة، إذا كنتم تحبونني وتعزونني وتحبون البلد، ما أطلع الليلة من هالجلسة إلا وأحدكم يقول: أنا بستلم الجماعة أو ترشحون أي أحد قادر على البذل والعطاء”.

ران على وجوهنا الصمت برهة من الوقت، بعدها كل أبدى مبرراته وتهربه من تحمل مسؤولية الرئاسة! حين دب اليأس في وجه أبي هشام والحيرة لفت المكان، وكأن الطير محلّق على رؤوسنا! جاء صوت المحب للجماعة المدافع عنها قلبًا وقالبًا، انبرى العزيز محمد الحمران ضاربًا على صدره، قائلًا: “يا سيدنا ما عندي مانع أن أمسك الجماعة مرة ثانية لكن بشكل مؤقت لحين يتم اختيار شخص مناسب”.

وبالفعل أتى للجماعة ثانية مستفيدًا من كل خبراته السابقة حيث عمل قبل رئاسته الأولى سكرتاريًا للجماعة في سنوات تأسيسها ولمدة ثلاث سنوات تقريبًا. لكن حدث خلال رئاسته الثانية ظرف عصيب وعاصف، تحمله بكل اقتدار وروية، حيث أرغمت جماعة الفنون التشكيلة وكل جماعات نادي الفنون على مغادرة مقرها الكائن ضمن مباني مركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف، مقر منفصل احتضنها طوال 20 عامًا حافلًا بالإنجازات، عندها تصدى مع المقربين منه لنقل الأرشيف الضخم إلى مبنى اللجنة الأهلية والذي يعتبر نادي الفنون أحد لجانها الفاعلة.

طوال هذا المتغير وعلى مدى عام كامل كان ديدن الفنان محمد الحمران، البحث عن مكان يليق باسم الجماعة وتاريخها الحافل، كان يقول: هذا المقر أفضل، هذا المنزل ربما أحسن، لا هذا المكان قد يكون ملائمًا، وهذا وذاك، إلى حين أبلغ المرحوم المهندس عباس الشماسي رئيس اللجنة الأهلية ضمن اجتماع مخصص للفاعلين في دفة الجماعة، بالمطالبة بمقر يليق بتاريخ الجماعة وسمعتها، وقد لبى المهندس طلبه حالًا وهي أمنية الفنانين والفنانات، بإيجاد مقر مستقل تتولى اللجنة تجهيزه واستئجاره لمدة مفتوحة غير محددة، وبالفعل تم ذلك بجهد كل المخلصين.

إن إخلاص محمد الحمران لم يكن في تولي الرئاسة شرفيًا وإنما نابع من روحه التواقة للعمل التطوعي السامي خدمة للمجتمع أولًا وأخيرًا. وخلال السنتين الأخيرتين من رئاسته الثانية أسند المهمة لنائبته الفنانة سعاد أوخيك لتسيير الأمور مع باقي أفراد الإدارة من فنانين وفنانات، نظرًا لكثرة مراجعته المستمرة لأروقة المستشفيات بعد أن ألم به المرض بشكل مفاجئ، مرض غالبه في البدء وانتصر عليه بعزم لا يلين، وتحت دعوات المحبين من إخوة وأخوات بإرسال دعوات الشفاء بين حين وآخر تمكن من تجاوز المحنة وعاد للحياة فرحًا مسرورًا واستبشر الجميع بعودة الروح لألقها السابق، لكن المرض اللعين المتربص به باغته ثانية وحاصره حد الخناق، أطبق على كل مفاصل جسده، لقد زلزل كل كيانه، فلم يعد قادرًا على الحراك، وبرغم ذلك احتسب أمره لله بصبر وإيمان قوي، وبعبارة ملؤها الإيمان والتسليم “أنا تحت اللطف”، و”قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا”، قلوب رحيمة أحاطت به بدءًا من أسرته وجميع إخوانه وكذا أبي هشام وزمان جاسم لتجهيز سفره لألمانيا لتلقي العلاج على نفقة الدولة لكن تعثر إجراءات السفر حال دون ذلك، وبعدها زادت حالته تعقيدًا، وأطبق عليه المرض من كل جانب وقض مضجعه ولياليه أنين، ينتظر رحمة ربه وظل متمسكًا بالصبر وبآخر نفس حاملًا روح الأمل وبلحظات الرجاء.

صدقت يا أبا هشام حين ذكرت لنا صدى صوت العزيز أبي قاسم: “كان صابراً محتسباً مفوضاً أمره إلى الله، لم ييأس أو يستسلم بل كان يردد عبارة، أنا أعيش لحظتي والباقي علمه عند الله”.

كل آجالنا يا صديق العمر مقضية آجلًا أم عاجلًا لا ندري متى ساعة الرحيل! ومتى تدنو المنية، تعددت الأسباب والموت واحد.

لقد فتك بك المرض يا أبا قاسم بوحشية غادرة وطوق جسمك وقلبك الرقيق، مرض لعين لا يعرف لا صغيرًا ولا كبيرًا، إنه سارق أعمار البشر.

المدهش في روحك يا محمد الحمران تحملك المرض بصبر يهد الجبال. كان شعاع الأمل مرتسمًا على محياك بالعودة للحياة. بالعودة للصحب بالعودة للفن، بالعودة للرفاق. حيث حاولوا قدر استطاعتهم أن يآنسوك في وحدتك قربًا ويبددوا عنك قساوة المرض وفظاعته، لكن المرض وما أدراك ما هو المرض، عاجلك بضراوة ودون هوادة، وكل الآمال والدعوات الخيرة لم تنقطع لآخر يوم من لفيف الأصدقاء والأحباب.

بالأمس سلمت الروح إلى بارئها، شيعك المحبون وودعك الصحب المخلصون، وأهالوا عليك التراب مكللة ألسنتهم وأفئدتهم بطائفة من الرحمات وتلاوة سورة الفاتحة، رحلت عنا يا أبا قاسم جسدًا ولم ترحل، إن روحك باقية ترفرف في سمائنا، متواجد طيفك بيننا. بطلتك، ببسمتك، بنبرة صوتك، بتعليقاتك، بقفشاتك، بلوحاتك، بألوانك، بالورش التي جمعتنا “بالروحات والجايات” وبكل الهموم والتطلعات والآمال التي اشتركنا في رسمها معًا.

ها قد رحلت عنا يا أبا قاسم، ماذا سيقول الصحب المقربون منك جدًا جدًا، وأي المواقف سيذكرونها وأي العبارات سيتلونها بعد أن رحل عنهم من تحمل عبء المسؤولية بضمير متوقد لسنين خلت، وأي العبارات ستصاغ بعد أن حفر سيرته تفانيًا، رحل إنسان عزيز الذي كان بين صحبه شمعة مضيئة والآن في عداد الراحلين.

إيه يا دنيا لماذا يرحل عنا الذين نحبهم؟!، يرحلون عنا ونحن بحاجة إليهم، يرحلون ويتركوننا حيارى، يرحلون ويدعون في رثاء مبكي وحزن عميق.

أفعالك الطيبة يا رفيق الدرب ستبدد وحشة الأحزان. طيبي نفسًا يا أم قاسم وألهمك الله الصبر والسلوان له المغفرة والرضوان.

وداعًا يا أبا قاسم كنت مضمدًا للجرح حافظًا للسر، مسليًا للروح، كريم النفس. عزائي لابنتك وجميع الأولاد والإخوان وكل الأقارب والأرحام والأحباب، عزيزكم أصبح في رحمة الله.

رحمك الله يا أبا قاسم رحمة واسعة، وجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة، إلى جنان الخلد أيها الخل الوفي.

وبينما كنت أضع الكلمات الأخيرة لهذه المرثية في هذا الصباح الحزين الذي زاد قتامة وحزنًا إلا وخبر آخر مفجع؛ رحيل بنت خالة زوجتي، الشابة وداد معتوق صفوان في ذمة الله، ما أقسى على النفوس حينما تحاصرها مرارات الرحيل من كل جانب، رحمك الله يا أم محمد صفوان ورحم الله زوجك عبدالوهاب وأختك نسيمة وأخويك الأستاذ إبراهيم وصالح ووالديك، أحزان وراء أحزان، ففي الأسابيع القليلة الماضية فقدت عائلتنا بنت عمي زهرة شلي وبنت عمتي زهرة المهر أم وصفي الحجاج، ألف زهرة على قبوركن الندية وألف رحمة تتنزل على أرواحكن الطاهرة، إلهي الطف بعبادك وألهمهم الصبر والسلوان وامسح على قلوب الفاقدين وأودعهم القناعة والرضا وحسن التسليم بالقضاء والقدر.

رحم الله موتانا وجميع موتى المسلمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نفوض أمرنا لخالقنا والمرجع كله لله.



error: المحتوي محمي