لا أشك أن هنالك ركنًا أو حارة أو مسجدًا أو مأتمًا لم يعرف الملا سعيد الخاطر، وإني أختار له أفضل الألقاب وأحبها إلى نفسي وإلا فهو قد تعمد جميع المسميات وحاز على الوفرة من الكُنى.
القديح اليوم تفقد الرونق الطاغي وجاهة وإيماناً وولاءً وعطاءً، وهي تخسر رجلاً لا يمكن أن يغيب، ولا أحسب أن هناك من امتد عطاؤه بامتداد عمره إلى آخر أشهر حياته كمثل هذا الوجيه رحمة الله عليه وهو الذي كان يصر على حضور الفعاليات وتعزية وأفراح أهله بالقديح وخارجها، ولم يغب عن اجتماعات المجلس الأهلي إلا حين أعياه المرض، وقد حدثني أحد أبنائه الكرام كيف أصر أثناء الأزمة التي نعيشها على ارتقاء المنبر الحسيني في الحسينية المسماة باسمه وصار يقرأ ويحدث وينعى بمفرده فقط لأنه يريد أن يتحدث عن الحسين ومع الحسين وآل الحسين عليهم السلام وقد أجبر أبناءه على ذلك رغم مرضه وتعبه.
لا يموت هؤلاء وإن غابت أجسادهم وهي حسرة عظيمة بلا شك سوف نفتقد خلالها تلك البشاشة العارمة التي يظهرها فقيدنا الغالي لكل أحد دون تمييز بين كبير وصغير أوجاهل ومتعلم، وشخصياً وأنا الذي أعده بمقام الوالد حتى مع وجود والدي لم أر منه موقفاً سواء معي أو مع غيري سوى مواقف النبل والكرم والتعامل الرفيع، وأذكر هنا موقفاً في أحد احتفالات الزواج الجماعي بقريتي القديح حين شرفني العمل معه وكان أن تصرفت بشكل عفوي تصرفاً لايزال يؤذيني، ولكن ذلك لم يؤثر فيه ولم يكن له ردة فعل سلبية أبداً، ولم يغير من طريقته وحسن تعامله مما جعلني صغيراً عند نفسي وزاد من قربي منه.
وكم سرني أن أهاتفه قبل أيام من وفاته رغم تعبه فحيّا ورحب وعرفته بنفسي حيث للتو كان قد أفاق فعرفني وبالحرف الواحد وبصعوبة كان يقول: أهلاً.. أهلاً.. أهلاً حتى غاب صوته بسبب الإجهاد ولم أحسب أنها آخر الكلمات التي أسمعها منه.
هذا الرجل وكما بدأنا له في كل زاوية من القديح فضل وفي كل ناحية عطاء ولا أظنه لم يشارك في أي فعالية ولا غاب عن صلاة جمعة أو جماعة يوماً ولا تأخر عن زيارة أوليائه إلا لظرف.
رافقناه في الحج والعمرة وجوار النبي صلى الله عليه وآله وفي جميع زياراتنا للأئمة الطاهرين تقريباً، وما أجملها من رفقة لا تنسى. وأي رفيق أبي ناصرٍ في الأسفار ، رجل لا يتميز عن أحد ولا يترفع لا على صغير ولا كبير ولا غريب أو قريب يمازح هذا ويلاطف ذاك ، ويجلس مع الجميع على مائدة واحدة ويكون ضمن الجمع لا قبلهم ولا بعدهم وهو لا يرضى إلا أن يكون واحداً منهم.
أمثال أبي ناصر لم يكسبوا المكانة الاجتماعية من فراغ وشبكة معارفه في القطيف والمنطقة كلها خير شاهد على ذلك، فكل صفات المؤمن الحق فيه، وحين يقال الدين المعاملة فإن التطبيق هو ما قام به هذا الإنسان بإنسانيته التي نفتقدها اليوم وللأبد، وحسبنا أنها باقية في خلفه الصالح بحق، فيكفي أن تكون قريباً من هؤلاء النبلاء لترى حسن الخلق منهم جميعاً دون تمييز، وترى التربية الفاضلة فيهم بحق، وترى كيف أنه قد بذل جل ما يستطيع ليكونوا مثالاً للآخر في العلم والعمل والتميز ويكفينا معرفة ما يحملونه من مؤهلات ومناصب وشهادات عليا لم تكن ناتجة عن فراع بل إنها بدافعية من أبً بذل لهم الحياة كلها من أجل أن يكونوا في الطليعة، وهم اليوم كذلك، لهذا فهو حين يغيب نراه فيهم شاخصاً وإن تملكنا الحزن على غيابه.
نعم.. القديح مصابة بفقده وهو فقد ليس كأي فقد، وعزاؤنا هو الصبر وسلوتنا الذكرى، وأملنا هو في الأبناء الذين لا نشك أنهم خير خلف لخير سلف.