أسمع جيدًا خطوات أمي، إنها تقترب نحو غرفتي سوف تطرق الباب بعد لحظات لتطمئن عليّ ثم تسألني: إسلام هل أنت بخير؟ هل تريد شيئًا قبل أن أنام، سوف أُنهي بقية أعلي المنزلية ثمّ أخلد للنوم.
فأجيبها: شكرا لك أمي سأنهي الرسم الذي بين يدي ثم أذهب إلى فراشي.
أمي: لقد تأخر الوقت بُني حاول أن تذهب إلى فراشك مبكرًا.
كلمات أمي مثل أغنية مسائية تحمل لي رسالة مهمة أستمع لها كل ليلة، وأقدّر خوفها من أجلي، فهي تريد أن أكون بخير دائمًا.
عندما أرسم لوحة فنية عادة أكون بمفردي حتى أستطيع رسم نفسي من خلالها لأني أكثر شخص أعرف مجاهل نفسي، ثم تقوم أمي بتسديد ملاحظاتها العميقة؛ لأنها تراني بوضوح، تخوضني بعمق فأنا مثل الكتاب المفتوح لديها.
هناك الكثير من الأمور الصادمة تحدث لي كل يوم، وأشعر بالخجل منها، وأعجز عن مساندة نفسي لأنني لا أمتلك القوة لمواجهة سخرية الأولاد في مدرستي.
أُعرفكم بنفسي أنا إسلام، أدرس في الصف السادس الابتدائي وأحبّ مدرستي كثيرا، لكني أحبّ العزلة على الرغم من تفوقي الدراسيّ. لقد ارتسمت الكآبة على ملامح وجهي بعد إصابتي بهذا المرض.
عجزتُ عن التّأقلم معه لأن ثقافة المجتمع الصحيّة ضعيفة تجاه هذا المرض، حتى أصحابي المقربين هربوا مني خوفًا وهلعًا، وقد يكون هروبهم هذا بتوجيه من أمهاتهم تحسّبا لمضار نقل العدوى لهم، في ضوء فهمهم المغلوط لمرضي.
هل تعلمون أني أتعرّض للتنمر في مدرستي كل يوم وأخجل من البوح بذلك لأمي.
هناك أمر ما أريد أخباركم به وهو أن الأطفال بالمدرسة يُطلقون عليّ لقب الطفل الملوّن لأنني مُصاب بمرض يُسمى بالبهاق. أنا لا أشعر بالألم لكن أعراض مرضي تتلخص في تلك البقع البيضاء التي تظهر على جسمي فأبدو بلونين مختلفين مما يزعجني ذلك كثيرا فأحاول تلوين هذه البقع بفرشاة الرسم لكن دون جدوى.
اسم مرضي العلمي (Vitiligo) وهو مرض غير معدٍ، وكما قلت لكم فأنا لا أشعر بالألم ولكن تلك البقع البيضاء المنتشرة على أطرافي وفي وجهي تشدّني إلى الدونيّة لأن الكثير ممن هم حولي لا يتقبلون اختلافي عنهم.
لن أنسى أن أخبركم بما يحدث لي بعد تلك المعارك التنمرية التي أتعرض لها بالمدرسة.
عندما أصل للمنزل كانت أمي تعرف حجم معاناتي بالرغم من أني لا أتحدث إلا بعد أن يفيض بي من الألم. لقد كانت بحدسها القوي تشعر بألمي وحزني قبل أن أتحدث معها.
كانت أمي تُغدق عليّ كثيرًا من دروس تطوير الذات مما يجعلني أشعر بقوة في أحيان كثيرة. فهي تُضمّد جراحي المكشوفة، وتُشعرني بأنني لستُ بمفردي في هذه الحياة القاسية. وأن تلك المواقف الصادمة هي من تصنع لي دروعًا حديدية لا يمكن اختراقها.
كنتُ أبكي كثيرًا في غرفتي لأني لا أُظهر دموعي أمام أحد، فأنا معتدٌ بنفسي كثيرًا مؤمن بأن الطريقة الوحيدة لحماية نفسي هي أن أجعل من حولي يُبصرون قوتي ولن يكون ذلك إلا من خلال حماية نفسي وتقديرها ووضعها في مكانها الملائم لها.
وهذا ما تردده لي أمي في دروس تطوير الذات، لقد استفدتُ كثيرًا من دورات تقدير الذات التي كانت تدربني عليها أمي، وقد عرفت ُ مؤخرًا أن أمي كانت تأخذ هذه الدورات صباحًا في مراكز تطويرية متعددة أثناء تواجدي في المدرسة ثمّ تناقشني فيها مساء.
في ذلك اليوم الذي احتفى فيه معلم الرياضيات بإنجازاتي الجبارة كما وصفها، عدتُ من المدرسة وكنت أنزفُ من داخلي بجميع صنوف الآلام؛ فقد جعلني زميلي منير أضحوكة بين زملائنا، إنه لم يكتفِ بلقب الطفل الملوّن وإنما ناداني بمرضي قائلًا: يا Vitiligo، أراد أن يُلبسني رداء الدونيّة؛ لأنه يعتقد أنه أفضل مني في مادة الرياضيات وأنني لا أستحق مديح معلمنا فحنق عليّ بشدة.
عدت من المدرسة وقد قررت ألا أعود لها مجددًا واخترت أن يكون منزلي مدفنًا لهمومي.
عندما رأتني أمي شعرتُ بحزنها الشديد من أجلي وكالعادة فهي تحاول إخفاء ملامحها بقدر ما تستطيع.
قلت لأمي وقد ارتسمت أمامي سود الساعات والأيام: سأهجر هذه الحياة هربًا من جميع الناس،
لقد تبيّن لي أنهم وحوش وليسوا من البشر إلا بأشكالهم فقط.
ازدحمت الأفكار في رأسي، وبدأت الخواطر تلقي بي هنا وهناك ولذت بالصمت.
نظرتْ لي أمي بحب ظهر على محياها، ثم صمتت فجأة وأطرقت برأسها وأردفت قائلة: أتمنى أن يختلّ توازن الألم في النفوس الحزينة، فتحلّ لحظة اغتياله. يعبر الألم مسافات شاسعة داخل أجسامنا. لكنه سرعان ما يغيب، يفارقنا دون عودة لأننا لا نسمح له بالبقاء، وأمر الابتعاد عن الحزن هو أمر حاسم نقطعه في كلّ ما يتعلق بصحتنا وبقائنا. فلكلّ ألم وقت وميعاد يحددان زمن زواله، والسعادة مَوْعِدنا أَلَيْس الصُّبْح بِقَرِيب؟
قلت لها: أي سعادة تنشدين مع طفل ملون مثلي يعيش مع وحوش ضارية ترفض السلام وتُشهر القسوة في وجهه؟!
أمي: أجدت التوصيف بني، هم وحوش
وأنت متميز عنهم. أليس منير من جعلك بهذه الحالة؟!
– بلى يا أمي.
– هل من الممكن أن نُعدّل من وجهتك التفاؤلية في الحياة ؟
أجبتها بألم:
هناك عاهات يسهل التغلب عليها ويغدو أصحابها قادرين على التّكيف مع المجتمع غير أن ثمة عاهات يصعب قهرها مثل عاهتي هذه.
-لكن يا بني إن المقارنات بين عاهاتنا وعاهات الآخرين تضعنا في واقع يفرض علينا عرض صور الإنتاجية الذاتية التي تخصّ مسيرتنا في الحياة. ثم أمسكتْ بكتفي وأردفت قائلة:
بني الجميع يمتلك بأقلّ تقدير عاهةً واحدة مستورة عن أعين الناس ويعيش البعض بعاهة مكشوفة أمام الآخرين، ولكن من الظلم أن تتجاهل جميع قدراتك وتبصر عاهتك فقط.
بني ذاك الطفل الملوّن يُخفي بداخله أشياء كثيرة لا ينبغي إسقاطها أو التغاضي عنها.
أنت طفلٌ متميز بألوانك الجسدية والتميّز عنوان فخر للإنسان، خاصة عندما يُلقي بك التميز في طُرقات مختلفة من النجاح والإبداع.
عزيزي إسلام: هناك من يشرب الماء من الأرض وهناك من يشرب الماء من القمر.
أجبتها ساخرًا: وهل سنشرب الماء من القمر؟ وهل يوجد ماء فوق سطحه؟
ابتسمت أمي وقالت: في أخبار القمر الجديدة، أكد علماء الفلك في (وكالة ناسا) وجود ماء على سطح القمر، في الجانب المضيء منه. وهذا يعني وجود الماء في أماكن كونية لا نعلم عنها شيئًا. وألطاف الله بعباده تملأ هذا الكون الشاسع وتمتد لتشملك بالعناية والرعاية.
وضعت أمي في طريقي نماذج كثيرة لمصابين بنفس مرضي آخرهم خبيرة التجميل المصرية لوجينا صلاح.
سعدتُ كثيرًا بالحديث عنهم وامتلأت رئتاي بالكثير من التشجيع وأخذت أتنفس العلم وكل جديد في عالم الرياضيات لأنها المادة المحببة لدي مع الرسم.
زرعت أمي بداخلي الشعور بالثقة ونزعت الشعور بالدونية وأخيرًا بدأت أخطط لوجهات مختلفة وبدأ شعور الدونيّة يفارقني، لم أنظر لنفسي بأنني أقل منزلة من أقراني أبدًا. ومضت السنوات وأنا أصارع هذا المرض وأقف بوجه أي تيار قوي يحاول تدمير قصوري العاجية التي شيدتُها من وحي خيالي الممزوج باجتهادي وتفوقي.
تمكّن الإنسانُ القويّ بداخلي من فرض سيطرته على الأجواء المحبطة التي تظهر في طريقي.حتى لو كنت قد تعلمتُ بطريقة مؤلمة إلا أنني كنتُ أشعر بمذاق النجاح والسعادة معًا.
هاجسي الوحيد كان يردد: مهما حاول أحدهم في محيطك أن يزرع التّهميش في طريقك ويخنق صوتك في أحشائك فإن قيمتك عظيمة لأنك الوحيد الذي يزنها بميزان العدالة.
الثقة بالنفس تاج العزّة والجمال، وما دمتم تصرون على إثبات قيمتكم الباهظة فجميع الناس مجبورون على الاعتراف بها ولكن متى ما فقدتم الثقة بأنفسكم أصبحتم من دون قيمة وساقكم العجز إلى طريق عدم القدرة على التعبير عن ذواتكم بشكل سليم.
(وعندما لا يُعبّر الناس عن أنفسهم يموتون بالتدريج) فما الكلمات سوى إبحار في القلب والوجدان، بعضها مثل حجرٍ كريم وبعضها ذو زوايا حادة يُقطّع نياط القلب، وهناك من يختار كلماته بعناية مُذيَّلة بأسمى معاني الحب والسلام مثل قيثارة تُغذي أرواحهم أولًا ثم تظهر للوجود ثانيًا. وبعض الكلمات كوحوش ضارية لا تقدّر سوى قيمة الأقوياء وتفترس الضعفاء مهما كان ضعفهم.
ربما حاولت بقلمي تسطير قصة بائسة تحولت في النهاية إلى رواية فاخرة بأحداث مُنمقة صِيغت بأجمل زُخرف وأبهى حلّة. وكانت مُلهمتي أمي التي فتحت أمامي كلّ أبواب الحياة المُقفلة.
وفي أول يومٍ لي في وظيفتي الجديدة كمهندس معماري شقّ طريق نجاحه وسط العلاج والمثابرة الناجحة، لن أنسى ما قالته لي أمي: “تعلّم كيفية تركيز الأفكار وترتيب أولوياتها ترتيبًا فعّالًا.. تعلم كيفية انتقاء أو اختيار ما يهمك فعلًا وتمييز ما لا يهمك استنادا إلى قيم شخصية موضوعة بدقة).
أعرف أن الجميع يستطيع أن يُمسك بالقلم ويُسطّر أحداثا كثيرة ولكننا في زمنٍ ينجح فيه القوي الذي لا تُسقطه العاهات المكشوفة بل ينير طريقه من نور قلبه بدلًا من أن يكون محصورًا بين جدران أحزانه وخجله من عاهته ومرضه بينما ينعم أصحاب العاهات الخفية بحياة كريمة.
لايزال يلوح لي قول أمي: بُني أنت أكبر من الأحلام الصغيرة، لابد أن تكون أحلامك بمقاس أكبر بكثير من قدراتك حتى تفخر بنفسك، وتستمر في تحريك جميع محفزاتك ليكون يقينك أقوى من الموت والحياة.
بعضهم يتنمر عليك وهو يقول: في ضعفهم كأوراق شجر تسقطها الرياح ويتلاعب بها الهواء!
ما ذنبنا نحن؟
وسأقول لكم: الانفعالات ما هي إلّا رسائل يزودنا بها جهازنا العصبي المركزي، أرسلها بطريقة صحيّة مقبولة اجتماعيّا، وفي وقتها المُلائم.