الضفة الأخرى 4

أعادت زيارة أختها أم سمير هذا المساء المُفاجئة، الذّكرى الأليمة التي لن تنساها أم عبير بعد وفاة زوجها أبو مُحمد، مما دعاها للجوء إلى أختها، تطلب منها المُساعدة ماديًا إلى حين تخرج مُحمد، وتوظفه، حيث لم يبق لهم سوى راتب زوجها، الذي لا يكفي التزاماتهم الشّهرية، إضافة إلى إيجار الشّقة، التي يقطنون فيها، وستُرجع لها كُلَّ المبلغ، الذي ستدفعه.

في ذلك اليوم، الذي تُسميه أم مُحمد بـ”اليوم الأغبر”، توجهت إلى منزل أختها هُدى “أم سمير”، المُوظفة في شركة مُحترمة، ووضعهم المالي في حالة مُمتازة جدًا، وقدماها لا تسطيع تحمل ثقلهما من شدة الذُّل، والإحساس بالحاجة.

جلست على الأريكة، بعدما رحبت بها أختها مُستغربة زيارتها، وهي التي لم تخرج من شقتها مُنذ وفاة زوجها، لأكثر من شهرين.

استجمعت قواها، وركزت تفكيرها فيما تُريد إخبارها.

أختي الغالية، لا أعلم كيف أبدأ كلامي، ولكن.

ما بك يا أم مُحمد؟ تحدثي، هل حدث لكم سوء؟

لا، تطمني ليس فيها إلا كُلَّ خير.

إذًا تحدثي، ما لي أراك مُرتبكة، والخجل يأخذ منك كُلَّ مأخذ.

حسنًا، سأتحدث.

أسمعُك.

أختي، إن وضعنا المالي بعد وفاة زوجي في سوء، وكُلَّ شهر، تزداد المُعاناة، وليس لي أحد في الدُّنيا غيرك، فوالدينا فارقت رُوحهُما الحياة مُنذ سنوات، وليس لي أخ أستند عليه في وقت الشّدة، لهذا أريد منك أن تُساعديني، لأستطيع تربية مُحمد وعبير وسُعاد، وكُلَّ مبلغ، تقرضيني إياه سأرجعُه لك فور تخرج مُحمد، وحُصوله على وظيفة، حيث لم يبق على تخرجه سوى شهر واحد.

حدقت في وجهها، شعرت بأختها مُضطربة، يعلو ملامُحها الارتباك، كأن صاعقة نزلت عليها، لا تعرف من أين جاءت، سوى أنها ارتطمت بها.

خرجت الكلمات من شفتيها.

أختي أنت غالية على قلبي، ولكن اعذريني، لا يُمكنُني الالتزام شهريًا بمُساعدتك، ولكن سأعطيك مبلغًا من المال، لعلَّه يُفيدك.

أومأت أم مُحمد بالمُوافقة، وجبينُها، يزداد عرقًا، كأنه الغيمات، تعصر حُبيباتُها، لتسقط.

تركتها، مُتوجهة إلى غُرفتها، وفي الصالة الكبيرة، التي تُزينُها التُّحف والأزهار، والأثاث الغالي الثّمن، توقفت هُدى بُرهة، تتأمل زوايا منزلها، لأعلى زاوية منه.

تُحدث أم سمير نفسها بانتشاء:

إيه، لا أريد أن أرد طلبها، لكني لا أستطيع إلى ذلك سبيلًا، فقد تغيرت نظرتي للحياة، مُنذ خُطوبتي إلى أن تزوجت، فقد احتواني من أول لقاء لنا، بعد عقد القران، ودُخولي عليه المجلس بكامل أناقتي، ونُعومة كُلَّ تفاصيل جسديَّ الطري الملمس والرائحة، لم يُبصرني غرامًا وشوقًا، لم يتغزل في مسامات جسدي، لم يُبادر إلى لمس وجنتيَّ أو خُصلة شعري، أو مُداعبة ألوان الفُستان، لكنَّه بادر بقوله:

هُدى، أنا سعيد جدًا بهذا اللقاء، سعيد بكونك أنتِ شريكة حياتي، سعيد لأني بين يديك، وتحت أصابعك، وخديك، أنت جميلة يا هُدى، وأكبر جمالًا مما توقعت، أصغي لي جيدًا يا هُدى، الحياة الزوجية، تبدأ من الاحترام وتنتهي بالاحترام، بعدما كان الرجل روحًا واحدة في جسد قبل الخُطوبة، فقد أصبح روحين في جسد بعدها.

إن الحياة ليست غزلًا، أو ترفًا، أو أولادًا، كُل هذه الأشياء وغيرها من لوازم الحياة الزوجية، ولكنَّ، لا تغدو هذه جميلة، وتشعر بها، إلا أن تعيش مُستقرًا ماديًا، تنظر إلى المُستقبل بنظرة واعية، كي لا تضيع، لهذا ينبغي يا هُدى أن نحسب لكُلّ شيء حسابه، وما تُوفره اليوم، سيكون لك غدًا راحة واطمئنانًا، لقد علَّمتني التّجارة أن أتقن لغة الحساب، وأكون الرابح دائمًا، أنا لا أجبُرك أن تكُوني مثلي، ولكن اجعلي من هذه الكلمات طريقًا، تُعيدين النَّظر فيها بين الفينة والأخرى.

رجعت إلى أختها، وسلمتها ظرفًا فيه مبلغًا من المال، وطلبت منها المُسامحة على التَّقصير.

استأذنت أم مُحمد للانصراف، وكأن الشُعيرات البيضاء، التي تغزو رأسها، تتساقط، مع كُلّ خُطوة، تخطوها إلى باب المنزل، لتكون خارجه، لعلَّ الهواء الطَّلق، يُسفر عن بُرودة، تُطيب روحها من حرارة القلب المُشتعلة، وذعر الظلّ بسبب شمس الظهيرة.

استرجعت أم مُحمد أنفاسها، مُرحبة بأختها، وطلبت منها أن تستريح، بينما هي تذهب لإحضار ما تُضيّفها به.

حسنًا أختاه، خُذي راحتك، ولا تُكلفي على نفسك.

بعد توجهها إلى المطبخ، تناولت أم سمير هاتفها النَّقال، لتجد مجموعة رسائل من ولدها سمير، يسألها عن الأخبار، كأنه ملهوف على شيء ما، أجابته: أنت دائمًا، تتعجل الأمور، اصبر قليلًا “يا خبر اليوم بفلوس بكره يصير ببلاش”.

ردَّ عليها مُتظاهرًا الهُدوء، كأنه الابن البار، الذي لا يُريد إلا الرضَّا من قبل والديه.



error: المحتوي محمي