سياط الحروب!

للحرب سياط لاسعة يتمخض عنها البؤس والفقر والهياكل البشرية باختلاف أحجامها.

ليس بمقدورها أن تهب الناجين منها سوى مرارة الفقد والذكريات الحزينة إلا أنّ هذا الأمر قد يأخذ بعدًا مختلفًا عند علماء النفس، وهذا ما ذهب إليه عالم النفس البولندي دابروفسكي الذي أجرى أبحاثه على بعض الناجين من الحرب العالمية الثانية فرأى نسبةً غير قليلة ممن عاشوا ظروف الحرب قد جعلتهم سياطُهَا أكثر مسؤولية في تحمل أعباء الحياة ، ورغم شدة أهوال الحياة وصنوف آلامها إلا أنها لم تستطع استهلاكهم، لذلك فإنّ مشاكل الحياة ألبستهم لباسًا مختلفًا عن غيرهم؛ فهم ينظرون لجميع تقلّبات الحياة المزعجة بمرونة وسلاسة ولا يضخمون الأحداث، ولهم قدرة مُدهشة على الموازنة بين الحلول ومجريات الزمان ، هم مبدعون في طرق المعالجة المناسبة لكل عائق جزئي أو كليّ يفصلهم عن الحياة الصحيّة.

أما جسور التواصل بينهم وبين الآخرين فقد امتلأت بالمصابيح المضيئة تتيح لمن حولهم الاستضاءة بخبراتهم.

قد تبصرهم وهم في صميم المُصاب يقفون بجانبك يربتون على كتفك وهم يقولون: يغزونا الألم ونصبر أو لا نصبر فهذا شأن القلب وقوة تحمله، وقد استندوا لقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [سورة الكهف 68].

ثم يعاودون النصح مرة أخرى بلهجة هي أقرب للتهديب قائلين: اصبر ألف مرة، وارمِ القدرَ بوابل من الرضا، والتسليم، اعتزل الناس بعض ساعات تقضيها في رحاب نفسك باحثًا عن لطف الله تعالى فربّ قدر حزين يفتح أقدارًا سعيدة، وكلّ امتحان تفرضه العزلة علينا نخرج منه بنتائج قَيِّمة، أما نحْتُ المُصاب فهو ألم متجدد يذوي لِباسك ، ويهرم ابتسامتك.

جوإذا بحثت عن سرّ جمال منطقهم فسوف يسبقه إيمانهم بأن من بواطن الألم يخرج الحكيم ، ومن أبواب المُصاب ينبثق العقل المُدبر.

وفي عالمنا المتسع نشعر بهمسات جميلة، ونبضات قلوبٍ يختزلها اللسان في أوج المحن بعبارة تبهج النفس مفادها:
ارفع رأسك، رغيفك بانتظارك.

وفي هذا السياق يجوز لنا أن نتفق مع نابليون بونابرت عندما قال: “المصيبة هي القابلة القانونية التي تولّد العبقرية”.

ولك أن تتخيل إنسانًا قد فقد من يستند عليه اقتصاديّا أو اجتماعيًا أو أسريّا سوف تراه يواجه رياح الحياة بقلب يخلو من وداعة الحمل إلى قسوة الوحوش الضارية، يصبّ جام علمه وخبرته على نفسه، يشقى ليسعد نفسه.

لا يزوره الرقاد، ولا يغفو طرفة عين إلا وقد أنجز مهامه، يقسو على نفسه حتى لا يشعر بعجزه لأنه فقد عماده الناهض.

من أجل ذلك ثمّة من يعتقد أنّ مشاعر الألم هي المربي الأكبر للإنسان؛ لأنها تعمل فيه مثل المِرْساة التي تجعله ثابتًا قويًا في طريقٍ امتلأ بعواصف هوجاء.

أخيرًا ينبغي أن نؤمن بحقيقة مهمة وهي أنّ أمر الخير والشر كلّه بيد الله تعالى وحده، عن أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ”.



error: المحتوي محمي