نجحت عملية الفتى الذهبي بوضع الأطباء مسامير في عظام كاحله، حين أفاق من البنج، تلقى همسات دافئة، تربيت على يديه، طمأنوه بأن كل شيء على ما يرام، زفوه بتبريكات، وقابلهم بامتنان لكل الفريق الطبي والدكتور الجراح، رمقهم بابتسامات وقبلات هوائية، شكرهم فرداً فرداً على أدائهم الرائع، داعبوه بمحبة بالغة، بضعة أيام وأذن له بالخروج من المستشفى، من المنفى اللاختياري.
تنفس للشمس ونظر للضياء، عيون فرح، وشهقات أكسجين، حياة جديدة بعيدة عن رائحة المكان وكآبته، زفرة آلام مبرحة، هونتها نظرات ملائكة الرحمة الحنونة، تعليمات صحية مشددة تلاحقه باتصالات وزيارات لمقر إقامته، حراك محسوب بقدر، التزام راحة لمدة ستة أشهر بعيداً عن ضجيج الملاعب وصخب الكرة.
جملة تساؤلات دارت واستدارت، عن لاعب يداعب الكرة كل يوم وإن لم يجد راقص حبة برتقالة، مهووس باللعب حد النخاع، لم يدر في خلده أن يبعد عن معشوقته يوماً ما، وهو المفتون بها منذ نعومة أظفاره، ها هو اليوم سيغيب عنها قسراً وكيف له أن يقوى بنيانه.
التوقف فجأة عن فعل تهواه النفس وكانت تجد فيه لذة وفائدة، هو قسوة ضدها وشدة إيلام، والفادحة إذا طال وقت الحرمان، صراع تتزايد حدته، بين اجترار إرجاع الزمن للوراء والقفز قدماً لتجاوز آثار المحنة.
كل مهارة تشبه نبتة زرع كلما سقيت ورعيت، نمت وكبرت، يوم بعد يوم جنينها قادم، بقطف عاجل أم آجل، والعكس صحيح، متى ما أهملت مصيرها جفاف وذبول.
كتاب وشعراء ورسامون وعازفون ومفكرون وعلماء إذا مر عليهم يوم من غير تدريب أو ممارسة يصابون بثقل في الإنجاز وتباطؤ في أداء المهام، الكسل يقوض اللياقة ويؤخر ديناميكية التفاعل للوراء، الخمول ضار لكل مهارة وكابت لكل موهبة.
لكن أن يأتيك التوقف قسراً لظرف خارج عن إرادتك، يقتحمك إجباراً نحو الركون والسكون، هنا التقبل والتسليم بالأمر ليس منه مفر برغم القسوة والمكابدات، فالبعد عن تحميل النفس ما لا طاقة لها مطلب، للعيش بسلام ووئام، التمسك بالصبر إيمان ومفتاح فرج، البعد عن كل توبيخ، راحة بال، وحذف حرف “لو” تصالح مع الذات، وأي شيء يفرض فرضاً يجب امتصاصه بذكاء، النظر بعين الرضا متنفس، وأخذه بقبول وتعقل وتسليم دون يأس طريق نحو الشفاء، أن تخلق عالمك بروح إيجابية بعيداً عن مناوشات الانهزامية، برسم ملامح جذابة، وباستحضار الأمجاد لكل ما هو مفرح، قمة تسامي وأطوار للارتقاء، من هنا تتقلص مساحة البعاد وتتجدد لهفة الانتظار لحين لحظة الخلاص.
إشراقات الأمل تكبر وتزدان، بإحياء التصور تلو التصور بإيقاظ مشاعر الموهبة من سبات التخدير حتى لا تصاب بالعجز والانكفاء والاستسلام.
الفتى الذهبي يحسب الشهور والأسابيع والأيام، جسده منهك يحاول التحرك بالقدر اليسير، ينظر لثقل الجبس كقيد من حديد، يتساءل متى النهوض وقوفاً والمشي استناداً إلى حائط أو عكاز، إغفاءة تأخذه بين صور الأمس الملونة وترميه يقظة لواقع حاله المقيد دون حراك، نزاع يعشه بين ماض آسر برغم المتاعب والمشاكسات وبين نظرة مستقبل غامض لا يعرف كنهه، إرادته تلح عليه بتفاؤل وتخطي الشدة وكل الصعاب، عبر فتح نوافذ الأمنيات لعزيمة متقدة وتأمل سير لاعبين أصيبوا مثله، ثم تماثلوا للشفاء وعادوا بقوة، همة تجتاح جسده، ينفث الآهات بتجاوز شهور المحنة، يرتدي لباس التفاؤل على هيئة قوس قزح، والإيحاء الذاتي جزء من رحلة الشفاء.
غادر برشلونة متوجهاً إلى بلاده، عاد للأرجنتين، إلى بوينس آيرس، عاصمة المحبين، استقبله المعجبون في المطار، يحييهم وهو مدفعون على كرسيه المتحرك، تناثرت القبلات والدموع من والدته “تيتا” السيدة دلما افرانكو، ووالده العامل البسيط “دون دييغو”، ضمه الإخوة والأخوات بفرح غامر، أتاهم الابن المدلل ذي 24 عاماً الذي أبصر النور بعد أربع بنات، أحاط به أخواه “هوجو ولالو” بسواعدهما اعتزازاً وافتخاراً.
وجد في كنف العائلة راحة بال وتعويضاً عن حنان افتقده طوال رحلة الاغتراب، عاد لطبخ والدته التي نما وتربى في حضنها الدافئ عمراً، وكل من في البيت يتسابق على راحته وخدمته، فهو الذي انتشلهم من الفقر والعوز وأبعد عنهم حياة الحرمان، كبر لكن في نظر والديه الوالد المحبوب، الشقاوة لم تزل مرسومة في عينيه بشغف، قفشات الضحك تجلجل حيز البيت وفضاؤه المعطر باللمة العائلية حميمية افتقدها على مدى سنتين.
مر الوقت واستعاد روحه المعنوية من خلال جو الأسرة الآسر.
وبعد ثلاثة أشهر من الراحة أدخل المستشفى ثانية، هذه المرة لنزع المسامير المثبتة في القدم، استلقى على السرير الأبيض، وعلى باب غرفة العمليات غمزة منه لعيون الكاميرا، دعوات مرسلة من أسرته والمقربين.
قلق وترقب يلفان أقرب شخصين له، حبيبة قلبه (كلوديا) ووكيل أعماله (خورخي سيتيرسز بيلير)، صديق الصبا، هما المرافقان له في حله وترحاله.
فتح الكاحل مجدداً ونزعت عنه الشرائح، نسج الدكتور خيوطاً معقمة وأحاط الجرح بلفائف قماشية، طبطب على قدم الفتى بدفع بطولي هامساً له “يابن بلادي أنت فخر لنا”، وكأن لسان حاله تدفعه بأمنيات معقودة لما هو آت”، غداً ستعود كما كنت، والنجاح سيكون حليفك، قدمك ستزف النصر قدماً لعموم البلاد نحو مونديال قادم، ستصنع فرحة كبرى مثل الذي حققته في سماء اليابان عام 79″، تخمين وتحفيز وبعد نظر، هي دعوات مرسلة من قبل الجماهير العريضة المتتبعة لكل أخبار ووضعه الصحي، من خلال صحافة وتلفاز، متلهفة لعودته لأجواء الملاعب، فهي مؤمنة بقدرات الفتى وموهبته الفذة.
صبيحة يوم جديد صحا مبكراً، يتخطى المشي حيناً ويهرول جيئة وذهاباً، وعلى وقع الموسيقى يؤدي حركات إحماء ممسكاً بيد والداته التي تحمسه وتدفعه كل يوم باستكمال المزيد والمزيد من التمارين قياماً وقعوداً، تساعده هوناً على هون، وكأنها تستعيد بدايات تعلمه المشي يوم كان طفلاً، تعينه نهوضاً وتشجيعاً، أم تراهن على تفوق ابنها وعلى موهبته المتفردة، منحازة له وتفضله على جميع إخوته، الذين لا يجدون غضاضة في ذلك، بل يحاولون إسعاده، إخوة وأخوات يناصرونه حراكاً ووثباً، يساندونه ببعض تمارين رياضية، معهم وحدة واحدة يشكلون فريق من ثمانية والوالدان يكملان عدد عشرة، يا صاحب رقم 10 ما أنت فاعل بكرة القدم بعد أن استطابت قدمك اليسرى.