مأتم الشمس

كانت الشمس أول من غاب عن وجه الأرض منذ بدء الخليقة منذُ خلق الله سبحانه الأرض!

ظهرت لنهار واحد وغابت، أضاءت للإنسان الأول الدرب وأعطت النبات الأول الحرارة اللازمة للنمو، غمرت الأرض بفوائدها وغابت!

ملأ الخوف والارتباك الإنسان الأول، بالليل الأول!

ماذا لو استمر هذا الظلام للأبد؟ عادت الشمس للشروق وتكررت ظاهرة الغياب والشروق بنظام رباني محكم منذ نشأة الخليقة حتى يومنا هذا.

تلعب الشمس دور المعلم الأول الذي يجعلنا نتقبل ظاهرة الرحيل والغياب.

فكم من شموس قد أفلت عن آفاقنا، رجال قد غمروا الوجود ضياءً شموس قد أمدوا العالم بغامر عطائهم ورحلوا!

كان لي خمس “شموس” خمسة “آباء” أفلت شموسهم ولم تعد تشرق من مطالعها واحدة تلو الأخرى، لكن دفء عطائها ومنافعها لا تزال تصلنا إلى يومنا هذا ولم ولن تنقطع.

أولى هذه الشموس منصور وأبو سعيد، كان حضن العائلة الدافئ وسعدها وسعودها، وكان رجل خير وإحسان وحكمة وبصيرة.

ثانيها كانت علياً وأبا الرؤوف، كان رحيماً رؤوفاً محسناً محباً ومحبوباً.

وثالث الخمس كان الرجل الذي خرجت من صلبه كان عبد الله وكان أباً للحلم، كان حليماً ورجل مواقف لا تنسى قاد مسيرة الخير في دأب نادر في مدينته القطيف وسار بها إلى طلائع المستقبل.

والشمس الرابعة كان محمداً وأباً لليمن، كان له مع العلم والتعليم حكاية طويلة فصولها الإنسان والأرض، عنوانها الحب والجمال أرسلها قوافي وأناشيد ستظل خالدة عبر الزمان.

أما خامس الخمسة كان عباساً وكان للفضل أب، كان رجلاً فاضلاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هندس عمل الخير ونقله إلى مراحل أكثر إشراقاً.

سأحدثك بشيء من الاستفاضة عن شمسي الخامسة التي أفلت قبل أيام أفلت دون أن يأفل نورها وإني لا أحب الآفلين.

عن الرجل الذي قضى أكثر من ٣٠ سنة، وهي تحديداً نصف عمره في مجال العمل الخيري والتطوعي.

رجل معطاء، كان ذلك بعمله بالهيئة الملكية بالجبيل وينبع، وكان عطاؤه ممتداً لكل المؤسسات الاجتماعية بمدينته التي وهبها روحه وفكره ووجدانه (القطيف).

أحد الدروس التي نتعلمها من أبي فاضل ونستلهمها من مسيرته الحافلة؛ تنظيم الوقت والجهد، فهذا الرجل كان بوظيفة مرموقة ومنصب مهم بالهيئة الملكية وبنفس الوقت كان يعمل بعد هذه الوظيفة بخدمة مجتمعه عبر الجمعية الخيرية ذلك الوقت عبر عديد من المواقع والمناصب حتى رأس مجلس إدارتها لسنوات.

كيف تأتى له أن يوفق بين عمل يمثل قوت يومه وقوت عياله واهتمامه بحاجات المجتمع وذوي الفاقة والمحتاجين!

كان متعدد الاهتمامات، فكان على صلة وثيقة بالثقافة، ففتح ديوانيته لمناقشة جميع المواضيع بجميع المجالات، وله مواقف مشهودة عديدة بذلك.

كان العم عباس كالنحلة التي تتنقل من زهرة لأخرى تتنقل بين عديد من المؤسسات الاجتماعية للعمل بها موظفاً خبرته العلمية والعملية بكل تواضع بخدمة مجتمعه.

وإذا كنا نتحدث عن الفضل، فسأخص فضله الخاص علي شخصياً، فكان له فضل كبير علي بسن صغيرة فكان أول من كسر خوف مواجهة الجمهور لدي فكان يصر عليَّ ويشجعني على تقديم بعض الندوات والمحاضرات بديوانيته الثقافية، في بداياتي كنت أكاد أسمع صوت نبضات قلبي تخرج من الميكروفون، بدعمه وتشجعيه اختفى ذلك الخوف وتلك الرهبة، فاليوم أخرج لأتحدث دون خوف بثقة على شاشات التلفزيون أو الإذاعة، فالفضل من بعد الله له رحمة الله عليه.

كان رحمه الله أنموذجاً حياً للعمل الخير بحياته وتفانيه، وهو أمثولة وقدوة لكل من يسأل عن إمكانية الموازنة بين العمل التطوعي والعمل الرسمي.

هؤلاء هم شموسي الخمس التي غابت ولم يخبُ ضوؤها عن أعينناً فأثرها باق معنا حي و ملموس ووهج أعمالهم و مشاعرهم باقية لا تغيب .

شموسي تأبى أن يستأثر بها فردٌ لأنها شموس وطن.



error: المحتوي محمي