سلسلة: إنك ميتٌ ومبعوث – (٢) وأناخت بكلاكلها

{فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر – ٦٨].

بعد أن نفخ إسرافيل في الصُّور النفخة الثانية “نفخة الإماتة والبعث” ها هي الساعة التي يخرج فيها الإنسان من قبره، وهي إحدى الساعات الثلاث التي هي أصعب وأشد وأوحش الساعات على ابن آدم.

جاء في الرواية عن الإمام عليّ بن موسى الرضا “ع”: “إنَّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيرى الآخرة وأهلها، ويوم يُبعث فيرى أحكامًا لم يرها في دار الدنيا”.

وقد سلّم الله عزّ وجلّ على يحيى “ع” في هذه الثلاثة المواطن، وآمن روعته فقال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم – ١٥].

– في تلك اللحظات تتطاير الأرواح وتعود إلى الأجساد بعد أن أنبتها الله مرة أخرى {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}.

ينفضون التراب عن رؤوسهم، يغشاهم الكرب ما يغشاهم، ويصيبهم الرعب والفزع، مبهوتين من شدة الصيحة والصعقة.

•• لنستحضر قلوبنا ونعيش قليلًا مع هذا المشهد الذي يخلع القلوب ويزلزل الكيان، وكأني أرى الناس يثورون ثورة واحدة من القبور التي طال فيها البلاء أو النعيم، ويقف الخلق كلهم هناك عراة، أذلاء، متحيرين، مبهوتين، وجلين، خائفين.

يقول، أمير الكلام “ع”: “وينفخ في الصّور فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة، وتذل الشم الشوامخ “الجبال العالية”، والصمُّ الرواسخ الصلبة الشديدة”.

ويقول أيضا “ع”: “إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم، وترعد منه السبع الشداد، والجبال والأوتاد، فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن، إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم”.

الله سبحانه ذكر كلمة {قيام} وليس وقوف. فما الفرق بينهما؟ القيام يأتي بعد السكون والركود، والموت سكون، اعتدل في قبره ثم جلس ثم قام منتصبًا.

أما كلمة وقوف فهي تأتي بعد الحركة مثلما لو كان ماشيًا ثم وقف.

وقال تعالى: {يَنظُرُونَ} ولم يقل يبصرون! النظر: هو الرؤية التي لا تصل إلى الذهن بواسطة العصب البصري وهي نظرة خاطفة ليس فيها تعميق، وقد يكون بمعنى النظر للشئ من غير تركيز ولا إدراك. أو يبقى نظر العين المحبوسة في المسموح حتى يمدد لها في اللامسموح.

أما البصر: فهو عكس النظر تمامًا فهو الرؤيا بالعين مع التركيز والفحص وهو الإيصال إلى الدماغ عن طريق العصب البصري ويعبر عنه القرآن بقوله: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف – ١٩٨].

لم يذكر القرآن إلى أي شيء ينظرون وتركه للتخيل. قد يكون من الذهول المهيب والدهشة البالغة، والحيرة المُربكة وتفاوت النظر؛ هل ينظرون إلى بعضهم البعض؟ أم ينظرون إلى الرحمة الإلهية؟ أم ينظر الكفار لما أنكروه من البعث والجزاء وكأنهم يستحضرون قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء – ١٧].

أم يكون النظر بمعنى الانتظار والتوقع والترقب كما في بعض التفاسير؟! نعم في ذلك اليوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد، سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها.

يُساق العباد لأرض المحشر لفصل القضاء. فليت شعري بأي قدم نقف بين يديه! وبأي لسان نجيبه؟! وبأي قلب يَعقل ما يقول؟! وبأي يدٍ نتناول كتابنا؟!

(لنا لقاء قريب في ساحة المحشر).



error: المحتوي محمي