طريقك لرضا خالقك

من أقل الأمور التي يمكن أن يهبها الأبناء لآبائهم وأمهاتهم بر الوالدين. فما قدمه لنا الوالدان من البذل والعطاء والتضحية، ناهيك عن التربية والعناء منقطع النظير، حتى يصل بنا الأمر عاجزين عن وصف ما يقوم به هذان العظيمان تجاه الأبناء من جزيل العطايا التي لا يستطيع وصفها واصف على الإطلاق؛ فكان لذلك الدور العظيم نصيب من التوصية والتقديس في القرآن الكريم، وتجسد هذا في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}. [سورة الإسراء الآية 23]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. [سورة البقرة الآية 83].
هكذا نجد أن الله -تعالى- يَعتبر الإحسان إلى الوالدين قضية جوهرية،فهي من الأهمية بمكان، بحيث يبرزها تارة في عالم الاعتبار بصيغة القضاء: (وَقَضَى رَبُّكَ)، ويجسدها تارة أخرى في عالم الامتثال بصيغة الميثاق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.
ويعتبر التعدي على حرمتهما حرامًا! وهنا لابد من التنبيه على أن القرآن الكريم في العديد من آياته المقدسة يحث الأبناء على حتمية الإحسان للأبوين، وقَرن -جلت قدرته- الحقّ في البر والإحسان إليهما بحقّه في العبادة، ومن حقوق الوالدين على أبنائهم التودد إليهما من خلال خدمتهما، واتباع المعروف في معاملتهما، فبرهما من أفضل أعمال التقرّب إلى الخالق -تبارك وتعالى-، وإجابة ندائهما، وعدم التردّد في ذلك. فهما الأولى للرعاية والإنفاق، وتوفير احتياجاتهما من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ودواء وما إلى ذلك. ويجب الحذر من البخل معهما! فالنفقة على الوالدين أمر واجب على الأبناء فهما أحقّ الناس بالعطاء والسخاء. والاستئذان منهما قبل الدخول، والأخذ بمشورتهما وبنصائحهما، والاهتمام بهما عند الكِبر وتجنب عقوقهما والإساءة إليهما -لا سمح الله-.
واهتمّ الإسلام بالوالدين جُلّ اهتمام وخصهما بالعناية الفائقة. فهما من بذل الكثير من أجلنا وسهرا الليالي لراحتنا، ومنحانا جميع الحقوق، ووفّرا لنا سبل العيش الكريم. ومن هذا المُنطلق حرص ديننا المقدس على حفظ حقوقهما وحثّ الأبناء على برهما وفي ذلك نوع من رد جميلهما والاعتراف بحسن ما صنعاه ومقابلة الإحسان بالإحسان. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء الآية36].
إذًا بر الأبوين في حياتهما تتعدّد أشكاله فمنها أيضًا التواضع في المعاملة وإبراز اللين واللطّف عند الحديث معهما، حيث الحذر من رفع صوتك على صوتهما أو نهرهما. وحسن الإصغاء وعدم المُقاطعة والمنازعة. وترك التأفف من طلباتهما وأوامرهما. والبشاشة وطلاقة الوجه واحترام تواجدهما في صدر المجلس وذلك عن طريق الاعتدال في الجلوس وتهذيب السلوك العام وتجنب الألفاظ المهينة التي لا ترتقي ومكانتهما الرفيعة! وكذلك برهما بعد رحيلهما من خلال إكثار الاستغفار، والدعاء لهما بالمغفرة والرحمة وغيرها من الأدعية والصدقات والأذكار. فهما – لاشك- طريقك لجنان الخلد وقد قدم الله -تعالى- طاعة الوالدين على كثير من الطاعات بل جعلها بعد عبادته جل في علاه! وتجسد ذلك من خلال الآية الكريمة آنفة الذكر. ومن هذا يتضح لنا جليًا أن خدمة الأبوين فرصتنا التي لا تضاهيها فرصة؛ لنيل السعادة الأبدية وهي رضا الله – سبحانه وتعالى- ومن المنطق بمكان أن نتسابق للفوز بهذه المكرمة التي هي بين أيدينا قبل أن تحل الآجال، وبعدها لا ينفع ندم ولا آمال.
ومن المعلوم أن طاعة الأبوين لها آثارها النفسية الإيجابية على الأولاد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام. فكلما احترم الأبناء آباءهم وأمهاتهم؛ كلما أصبح أولاد الأولاد أكثر حنيةً، وأكثر عاطفةً على آبائهم، وبالتالي تسود في المجتمع هذه الثقافة المحمودة. وهذا بطبيعة الحال عمل محبب وإيجابي، وهو مسعاه لرضاه – تبارك وتعالى- وهذا مخالف لما يحصل في بلاد الغرب،والتي لا تدين بمبادئ ولا إسلام.
وخير شاهد على ذلك ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية، فقد أدّى التفكك الأسري إلى متاهات لا تُحمد عقباها، وأخذ الولد يتنكر ويتنصل عن أداء الواجب لوالديه، وانجرف في تيار الماديات واللذات العارمة، الأمر الذي أدّى إلى إيكال وترحيل الأبوين إلى دور الرعاية! بل وبلغ الانتكاس الاجتماعي حداً ليس بالقليل. بحيث أصبحوا يهتمون بتربية الحيوان -أجلّكم الله- أكثر من الذين خرجوا من الأصلاب! وإن هذا الوضع الشاذ أصبح حالة واقعة من الأنانية والانعزال، مما أدى إلى انقطاع كل ما له صلة بالإنسانيات وسمو الأخلاق، وباتت تلك المجتمعات في مرحلة متقدمة من الانهيار القيمي.
إذًا وبعد كل ما ذُكر يتضح بكل وضوح ما جاء به سماحة الإسلام المقدس تجاه طاعة الوالدين، وأنها من الأمور التي حرص ديننا الحنيف على القيام بها على أكمل وجه ممكن. وعن رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين”. وقال أيضًا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: “نظر الوالد لوالديه حبًا لهما عبادة”. وختامًا ندعو لهم بدعاء الإمام (زين العابدين) عليه السلام: “اللهم  ألبسهما العافية حتى يهنئًا بالمعيشة، واختم لهما بالمغفرة حتى لا تضرهما الذنوب، اللهم اكفهما كل هول دون الجنة حتى تُبَلِّغْهما إياها برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل لهما ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولهما فيها صلاح إلا قضيتها، اللهم ولا تجعل لهما حاجة عند أحد غيرك اللهم وأقر أعينهما بما يتمنياه لنا في الدنيا، اللهم اجعل أوقاتهما بذكرك معمورة، اللهم أسعدهما بتقواك اللهم اجعلهما في ضمانك وأمانك وإحسانك برحمتك يا أرحم الراحمين”.


error: المحتوي محمي