جزار بيلباو تظاهر كطفل بريء، وقدم اعتذارات مطولة، وقال: “لم أتعمد إيذاء مارادونا بتاتاً”، أي كلام يصدق؟ وماضيه ملوث بأوجاع الآخرين والفتك بهم، سجله يكشف عن قسوته اللامتناهية، طرد “جويكوتشيا” في حياته الكروية 9 مرات مباشرة نتيجة تدخلاته العنيفة، واختير ضمن قائمة أوغاد كرة القدم التي ضمت أشرس وأعنف اللاعبين.
تبريرات جويكوتشيا، قوبلت بالاستهجان، فبعد سنوات تكلم بابتسامة ماكرة، وقال: “سعيد بالحذاء الذي كسرت به رجل مارادونا وقد وضعته في صندوق زجاجي بمنزلي بجوار مقتنياتي الخاصة من صور وميداليات”! معتزاً ومؤكداً: “أحتفظ بالحذاء لسبب واحد، لأني كسرت به قدم أفضل لاعب في العالم”!
أن يحتفظ شخص بأوسمة تفوق ودروع نجاح وميداليات فوز، هي علامات فخر مجبولة في كل نفس، لكن أن يحتفظ بذكرى حذاء تسبب في إيذاء لاعب وجعله يدفع ثمناً غالياً من أيام حياته، أية فخر وتباهٍ في ذلك؟ أهي لذة سادية أم جنون ذكرى لطيش متفرد.
الزائر أو الناظر حين يرى الحذاء ماذا ينظر؟ لحجمه أم لونه، شكله، ماركته، وهل ينسى لحظتئذ صاحبه الذي ارتداه ذات مساء وهشم به كاحل الفتى!
هل يريد “جويكوتشيا” أن يكون حذاؤه حاضراً في ذاكرته كاعتراف ذاتي، سعياً لفضيلة الحق، أم تبجح لبطولة زور متوجة بعنف وسيرة خطرة.
حذاؤه دخل التاريخ كحال الأحذية الشهيرة التي شكلت ذاكرة بشر واستوطنت حكايات شعوب ولوحات فنون، فمن حذاء سندريلا، إلى حذاء المتمرجحة في لوحة فراغونار، وحذاء سنور وساحر الأوز، والمرأة العجوز التي عاشت في الحذاء، والقطة صاحبة الجزمة وحذاء ذي سبعة فراسخ، وذاك الحذاء البالي للعامل المتعب بخيوطه المتهالكة للفنان “ڤان جوخ” وقدم آدمية على شكل حذاء للسريالي “رينيه مارغريت”.
أحذية شكلت علامات حسية وثقافية وأصبحت مادة خصبة نهل منها المبدعون، أما حذاء الجزار، فهو علامة على لحظات الجنون، لقطة هستيرية، أصابت الفتى في مقتل، ترنح ألماً على العشب الأخضر وعنها يقول: “لقد شعرت للتو بالصدمة، سمعت الصوت، مثل قطعة من الخشب تتشقق، وأدركت على الفور ما حدث.. لقد كسرت قدماي.. لقد انتهيت انتهيت..”!! دارت به الدنيا ليلاً، وسط الأنوار الكاشفة وعيون 100 ألف واجمة، كل شيء كان يراه ظلاماً دامساً، مستقبل يلفه الغموض.
كيف للجزار أن يحفظ حذاءه في صندوق زجاجي، أي رمز وأي معنى؟ ويبقيه لمن؟ للأجيال أم للتاريخ، أم تمجيد شخصي وعزة صراع قومية، إنه شاهد للحظة على اغتيال قدم من ذهب.
لاعب شرس حظي بشهرة مقيتة وألصق به لقباً مرعباً، “جزار بلباو” أصبح أشهر من نار على علم، وصف يضرب به المثل، لضراوة أي لعب خشن.
ولماذا تحديداً اسم بيلباو، يعود ذلك لارتباط الجزار بعاصمة إقليم الباسك “بيلباو” معقل ناديه الاتليتك، وبفعلته شوه مكانة المدينة تزامناً مع الاغتيالات التي قامت بها حركة “ايتا” المسلحة ضد مسؤولين إسبان، كلاهما جنى على الإقليم بنظرة سلبية لعقود من الزمن، لدرجة أن ملعب مدينة بيلباو لا تقام عليه أي مباراة للمنتخب الإسباني منذ عقد السبعينات من القرن المنصرم.
أبعد تلك السنين هل يسعى أحد لتقليب ذاك الحذاء المحفوظ في صندوق زجاجي، ويتأمله طولاً وعرضاً، لعله يستدل على نفسية الجزار كقطعة أثرية، ويسترشد تأويلاً ما دار في دواخل ذهنية “جويكوتشيا” لحظتئذ، عملاً بالمثل القائل: “أنت لا تعرف شخصاً ما حتى تمشي ميلاً في حذائه”، ومن هو الذي سيرتديه؟ كل قدم سترفضه!
حذاء يستدل عليه صاحبه، هو الذي يفاخر به أكثر من كل مقتنياته الأخرى! جماهير عصره لا تذكره مدافعاً مستبسلاً في الذود عن مرماه، بل لاعباً عدوانياً بسبب عرقلاته الجنونية، حذاء دال على زمن التوحش.
تعد الأحذية مظهراً شخصياً وعملة اجتماعية، ورموزاً لوقائع خلدها التاريخ، هناك أحذية مجد ونصر، وأخرى على النقيض، أحذية عار، وأرذلها حذاء جندي فر من المعركة حافياً وولى الدبر على وقع أحذية الغزاة، وأبشعها حذاء يرمى مكابرة وآخر يسلب عنوة، وتظل القدم خاوية لا تلوي على شيء، ستظل الطريق وينالها التعب والإنهاك، أشواك الأيام ستدميها، لن تستطيع أرجل السير من دونه، الحذاء صون للأقدام، يعينها سيراً في مناكب الأرض، كل حافٍ بالمعنى الأوسع والأشمل ضائع في هذه الحياة.
كم حذاء ننتعله في حياتنا؟ وكم أثمان دفعنا لشراء الأحذية، خزائن أحذية بحالة جيدة ترمى في المزابل، وبالمقابل بشر لا تعرف للأحذية سبيلاً، حفاة عراة، تئن من أشواك الأيام، قدت أجسامها من فقر، الحذاء آخر أمانيها!!