وأولو الأرحام

قال تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).

حرصت الأديان السماوية جميعاً على صلة الأرحام ودورها وأثرها على الفرد والمجتمع، وبيّن القرآن الكريم ذلك جلياً حتى يكون حجة على الناس، ثم أكمل ورثة الأنبياء محمد وآل محمد رسالة السماء بتواتر الروايات والأحاديث حول ذلك.

ورد في الأثر: “ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم”.

غير أن المجتمع المعاصر انقسم في هذه المسألة انقساماً واضحاً؛ فمنهم من حرص على صلة الرحم تماما، وأعطاها الأولوية، وكانوا منارات لأسرهم ومجتمعاتهم، ومنهم من غفل عن ذلك – بقصد أو بدونه – وكانوا معاول هدم لأسرهم ومجتمعاتهم، وعلة رئيسة في تفكك الأمة وضياع موروثها الديني والأخلاقي، وهم من سأسلط عليهم البوصلة في هذا المقال البسيط.

بلغ ببعض العوائل المعاصرة الحال أنهم لا يعرفون شؤون بعض مطلقاً؛ فلا تزاور ولا تواصل ولا اتصال رغم تواجدهم في حيّز جغرافي قريب فضلاً عن سهولة الحركة بأنواعها ووجود متسع من الوقت لذلك، وبالتالي فمبررات القطيعة غير واردة جملة وتفصيلا.

وهذا يعني أن البعد الإيماني بجوهره الحقيقي غير مكتمل في هذه النفوس مهما كان ظاهرها.

حين يتزوج ابن أخيك أو يتعرض لعارض صحي خطير – مثلاً – ولا شعور عندك بالمسؤولية ولا بالواجب الإنساني؛ فأنت أشبه بغصن شجرة الزينة الذي يعجب الناس ظاهره ولا خير في باطنه في أحسن الأحوال.

تربت الأسر المتدينة والمستقيمة على صلة الأرحام والتزاور والتواصل وفق المتاح والممكن؛ غير أن هناك بعض الأسر لم تعرف من الدين إلا شكله وجعلت صلة الأرحام على هامش الحياة.

حين يتعرض أخوك لظرف ما يقتضي الوقفة المعنوية فضلاً عن المادية ولا يوجد لك أثرٌ؛ يصابُ بخيبة أمل في الناس جميعاً أنت من غرسها فيه، وقد تشكّل هذه القطيعة عنده عقدة نفسية مستقبلاً تكون أنت وقودها.

بعض العوائل لا يتبادلون أخبار مناسبات بعضهم السعيدة وغير السعيدة أصلاً، وبعضهم يتبادلونها بعد فوات الأوان.

ومن خلال دراسة خاصة لثلاث حالات لمرضى مزمنين هم في قمة الأخلاق والكمال؛ وجدت أن كل أرحامهم – إلا ما ندر – قد تركوا التواصل بهم مطلقاً، فضلاً عن التزاور، وهذا يعني انحداراً كبيراً وخطيراً في الوازع الديني والقيم والفضيلة بقصد أو بغير قصد يترتب عليه أضرار بلا حدود، كما يعني تراخياً فلكيّاً في العلاقات الإنسانية الرحمية إن لم تكن قطيعة كاملة.

وعليه؛ فهذه الأسر تساهم في تنشئة جيل قاطع للرحم وغير مكترثٍ بالواجبات الدينية والمسؤوليات الإنسانية تماماً، بمعنى تنشئة جيل هجين لا يعرف الواجبات من المندوبات من المحرمات.

من هنا لا أتعجب حين أجد شباناً يستكثرون السلام على أرحامهم عندما يصادفونهم في الطرقات؛ فالوالدان غرسا في النفوس بذور القطيعة، ووضعا بعض الرواسب التي تفسد الود وتعكر صفو السعادة؛ وهؤلاء الأولاد هم حملة رايات آبائهم أو أمهاتهم.

أتفهم أن يخرج من العائلة فرد أو اثنان مثلاً كقاطعي رحم وغير مبالين بالحس الإنساني؛ لكن أن تكون عائلة بأسرها وبأولادها فهذا أمر بحاجة إلى إعادة ترتيب للأولويات وغربلة لبوصلة الدين والأخلاق والتربية.

إن لم نرحم المرضى المزمنين وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة سنتحول لمجتمع فقير للإنسانية بكل أبعادها.

قاطعو الأرحام لا يستشعرون خطورة الموقف على أنفسهم ولا على أسرهم حديثاً؛ لأن العزة بالإثم تلازمهم ملازمة الفصيل لأمه؛ ولكنهم سيدفعون الثمن باهظاً في الدنيا قبل الآخرة، والتاريخ القديم والحديث له ألف شاهدٍ وشهيد.

عوّدوا أنفسكم – أولاً – على صلة الأرحام، وربّوا أبناءكم عليها، وعلموهم الابتداء بالسلام، واخلقوا فيهم البسمات عند كل لقاء بأرحامهم، فضلاً عن التزاور والتواصل لتجدوا أشجاراً قطوفها دانية عليكم وعلى أولادكم.

ولا يفوتني التنبيه بخطورة توريث الأحقادِ للأجيال المستقبلية، فذاك أشبه بغرس شجرة الزقوم التي يكون طلعها كأنّهُ رؤوس الشياطين، قال الله تبارك وتعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ).

صحيح أن هناك شريحة مؤذية من بعض الأرحام – أحياناً – قد تتطاول أو تتجاسر عليك عند التزاور أو التواصل لكنها قليلة جداً في العادة ولا تشكل نسبة كبيرة تستوجب قطيعة كل العائلة، بمعنى لا ينبغي أن نحمِّل كل العائلة وزر أحدهم.

الدنيا أيام قلائل ولن نعيش بها مرتين؛ لذلك ينبغي أن نخلّد فيها المكارم ونتجاوز عن الخصومات ونغرس بذور الحب والسعادة للحياة ولمن فيها.



error: المحتوي محمي