قبل أسابيع، كنت في حوار مع ابني عبدالله الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاما، واختلفنا على معلومة معينة، فقام عبدالله بعفوية وتلقائية بالمناداة «هاي سيري» لتجيب عليه الآنسة أو السيدة سيري القابعة في هاتفه الملقى على بعد أمتار منّا «هاي عبدالله» فسألها عبدالله سؤالا عن المعلومة التي اختلفنا حولها بلسان أعجمي طلق فصيح، وأجابته هي بدورها.
وأثناء إجابتها، كان عبدالله يكتفي فقط بالإشارة بيديه وهز رأسه موافقا، وعلى وجهه ابتسامة الانتصار، بينما أنا انعقد لساني من الدهشة، وتسمّرت في جلستي لا أملك حلا لهذه الـ«سيري» التي تسللت إلى بيتي، وشاركتني في تعليم وتثقيف وربما تربية ابني.
هذه المربية لا أعرف كيف أتخلّص منها، لا أملك خيار إصدار «تأشيرة خروج دون عودة لها» وفي الوقت ذاته، دخلت إلى المجال الحيوي لابني وأبناء كل الأسر، وباتت تشاركهم أوقاتهم، وتربطهم بعالم متّسع، تتحدث لهم دون ملل ولا كلل، يكفيها شحن البطارية وشبكة إنترنت، لتمنحهم التواصل والحديث دون راحة.
عادت بي الذاكرة نحو ربع قرن إلى الوراء عندما كنت في عمره، وكانت الأسرة والمسجد والمدرسة والإعلام الأرضي والمطبوع هي المؤسسات التثقيفية والتربوية التي نشأنا من خلالها، الكتب المطبوعة والمجلات كانت مصادر معلوماتنا في زمن ما قبل الشبكة.
وحين تدخل المطبوعات إلى المنزل، فهي حق مشاع للجميع، يطّلعون عليها ويناقشونها وتجري عليها أحكام الرقابة الأسرية، حتى التلفزيون في حقبة ما قبل الشبكة، كان إعلاما منضبطا باتساق مع ثقافة المجتمع الذي يحوي الأسرة والمسجد والمدرسة، وبالتالي كان لا يتمايز عنها في مضمون ما يبثه، ويبقى أيضا متربعا وسط المنزل ليخضع الأطفال إلى رقابة إضافية على ما يتابعونه.
لست تربويا حتى أقدم حلولا هنا، بقدر ما أوصّف واقعا نعيشه، أصبحت فيه الحلول التكنوثقافية تتسارع في الدخول إلى حياتنا، وعندما تدخل، لا تبقى خاملة، بل تغيّر حياتنا على نحو غير مسبوق.
الأستاذة «سيري» ليست سوى إحدى الوسائل في طابور طويل من الوسائل التي فرضت نفسها علينا ودخلت في منافستنا ومشاركتنا تنشئة أبنائنا، وتشترك كل هذه الوسائل في أنها عصيّة على الضبط والرقابة، وتغمر -حت الطلب- المستخدم بكل المحتويات على اختلاف جودة وقيمة تلك المحتويات وتضاربها.
وبهذه النتيجة، سنجد أنفسنا أمام جيل لا تحدّه ثقافة واحدة صنعتها وسائل محددة ومنسجمة، بقدر ما سنكون أمام جيل تتجاور فيه أنماط سلوكية وتوجهات فكرية متباينة، بقدر تباين المصادر التي تتدفق إلى كل مستخدم.
لكن، هل ستكون هذه الثقافة ثقافة مستقرة، تمثّل هويّة وعمقا ونقطة ارتكاز؟ سؤال كبير أتركه لوقفة أخرى، وأختم بالتنبيه بأني حصلت على إذن من الابن عبدالله لنشر هذه القصة، وطلب بعض التعديلات قبل موافقته على ذلك، وهذا أول الغيث بعد ما شرّفتنا الأخت «سيري».
المصدر: آراء سعودية.