“الحمد لله.. لقد مات السجان”.. هذا كل ما تفوه به من كلمات عندما وصله خبر موت السجان. وكل الذي فعله هو أن هم بنفسه من سريره وتوجه نحو المقبرة لإحياء مراسيم الدفن والعزاء. حيث إنه وقف يستقبل التعازي وكأن المتوفى لا يمت له بصلة.
وبعد سنة كاملة، وفي صبيحة أحد الأيام أدرك أن السجان الذي رحل عن عالمه لم يكن غير حارسه الأمين، الذي كان يُأمّن له المأكل والمشرب والملبس والمخدع. إلا إنه لم يدرك تلك الامور إلا بعد أن وجد نفسه منغمسًا في معمعة كرة القدم وكومة المواد التي رسب فيها. حينها تذكر النقش الفرعوني الذي يقول “إذا مات الأب هتفت الملائكة: ومات الذي كان يكرمك من الناس”.
حينها بكى لأول مرة على رحيل والده. وذهب نحو قبره ونثر عليه الرياحين وعاهد روح والده بأن يرفع رأسه ويحقق أمانيه. إنها اليقظة التي فجرت عزيمته ودفعته في شق طريقه نحو النجاح. ففي السنة الدراسية الأولى بعد رحيل والده كان قد رسب في جميع المواد. وبينما كان زملاؤه مشغولين في البحث عن الجامعات كان هو يبكي بحسرة. ويعتصر الألم وكأن والده قد رحل عنه للتو. هنا أدرك قيمة ذلك الأب الذي كان يسميه “السجان”. وأدرك أن تلك النظرات القاسية من عيون والده ما هي إلا نظرة حنان.
كثيرًا ما تمر علينا حالات يتحول فيها الأب إلى رجل شرطة. فيمارس على أولاده أسلوب التحقيق والمداهمة. فيجعل من المكان أشبه بالثكنة العسكرية. وفي المقابل تمر حالات أيضًا لا يكون فيها الأب رجل الشرطة بل يكون هو الحرامي بعينه. فيترك الباب مفتوحًا على مصراعيه ويتوسد وسادته ويغط في نوم عميق، تاركًا خلفه قصصًا يشيب لها الرأس. وفي الحقيقة كلا النوعين من الآباء غالبًا ما يخلق عاهات بشرية. والاعتدال في التربية حتمًا هو الأنسب لخلق أبناء يتمتعون بصحة نفسية. ويحدث بعض الأوقات أن يحكم الأبناء وبعض المقربين من الأسرة على أن سلوك الأب يدخل ضمن دائرة العنف الأسري. والحقيقة هي أن الأب أو ولي الأمر كان يمارس ما يسمى في الأدب (الإسلامي) بالغضب المحمود والذي يعني أن تغضب على ما هو حق، ولما فيه من منفعة خاصة أو عامة. وأن تعالج الأمور بما يتناسب مع مستوى شدتها. أي أنه من حق الأب أن يغضب عند تدني المستوى الدراسي للأبناء ومن حقه أن يغضب أيضًا إذا وجد أن الابن يمضي الكثير من الوقت خارج المنزل أو أن يعود متأخرًا ولكن كما أسلفنا يكون الغضب في الإطار المحمود.
أما صاحبنا الذي بكى بعد سنة على رحيل والده. فكان قد أدرك أن والده لم يكن إلا ذلك الملاك الذي احتضنه في طفولته ومراهقته وحتى بعد مماته حيث إنه كلما ذهب لمركز تأهيل مرضى المخدرات يترحم على والده قائلًا: “رحمك الله يا والدي فهمت الآن لما كنت تقسو علي”.