كم تألمنا وما زلنا نتألم؟

الجسم البشري منظومة على درجة عالية من التعقيد، أجهزته المختلفة تستجيب بطرق مختلفة لإشارات الجهاز المناعي، لترفع مستوى الحماية ضد الأمراض.

أجسامنا ليست ثابتة بل تتمدّد وتتقلص مع تنوّع النظام الغذائي، وبسبب ممارسة الرياضة والمرض، كما أنها تتغير مع تقدمنا في العمر، حيث تصبح مختلفة بشكل ملحوظ في نهاية حياتنا.. وقفة الأشخاص ومشيتهم كدليل على المرض أو الصحة الجيدة أو الجمال أو القبح أو الأناقة أو القوة أو الضعف، هذه المفاهيم المتغيرة لوضعية الأجسام من كتاب “قف مستقيماً!” لمؤلفه ساندر جيلمان.

إن جسدك أشبه بسيرة ذاتية متنقلة حيث يعكس التكوين من عضل ولحم تجاربكم وإصاباتكم ومصادر قلقكم وهمومكم ومواقفكم سواء كانت وضعية جسدكم مقوّسة ومشدودة أو منتصبة ودفاعية فإنكم تتعلّمونها في مرحلة مبكرة من حياتكم فتصبح من صلب بنيتكم، فنحن نخزّن مشاعرنا وتجاربنا وذكرياتنا ليس في عقولنا فقط، بل في أجسادنا وفي خلايانا وفي جلودنا وبكل جزء من جسدنا، وجميعنا يعرف أن كل عضو من الجسد له دور يلعبه حتى لو كان دورًا صغيرًا جدًا، بحيث إنه عند حدوث خلل في أي جزء من الجسم فذلك يؤثر في الجسم برمته.

لعل شبابنا اليوم لا يعرف الكثير عن الحيوية التي كنا نعيشها في عهد شبابنا قبلهم، لم يكن بيننا من يعاني من متاعب صحية مزمنة، ولم تكن جيوبهم مليئة بالأدوية وأجهزة قياس الضغط والسكري التي ترافقهم أينما ذهبوا.

بصراحة نقول إن مرحلة الشباب العمرية أصبحت محدودة بسنوات، مرحلة انهيار كل المثاليات التي عاش لأجلها آبائنا وجدودنا، كانوا يسيرون على هذا المنوال، دون أن تشكل تهديداً حقيقياً لنظام حياتهم، وما كانوا يفعلونه صالح لنا، نجد أن نمط حياة هذا الجيل مليء بالأحداث والتغيرات الاجتماعية الصاخبة والظروف القاسية والتحديات المحدقة، لقد بدأنا ندرك بأن اساليبنا في الحياة غير صالحة.

إن مما يحز في النفس ويؤلمها جدَّ الإيلام النظر إلى شاب لا يتجاوز عقده الثالث يجول في ممرات المستشفى ومن قسم إلى قسم آخر، تحامل على نفسه في إعياء يتفطر له الفؤاد، يترنح حتى لا يقوى على الوقوف، ولا تخطو قدمه إلا متكئاً على كرسي أو طاولة، أما أطرافه فلا تنفك ترتعش ولسانه يلوك بكلمات لا يكاد يفصحها، قلت: عافاك الله، قال لي وهو يغالب دمعة تكاد أن تطفر من عينيه: ألا تجدون حلاً لما نعانيه؟؟ تراني أنهكني المرض من سنوات وسنوات، يئستُ من الشفاء، إنه يستغيث بمثلي ولست طبيباً ولا موظفاً تابعاً لوزارة الصحة.

مع تطور الحياة ومتغيراتها وفلسفتها؛ وما تحمله من مخاطر على صحة الإنسان بفعل استعمال آلاف الأصناف الغذائية المحفوظة والمعالجة بمواد مسرطنة ومحورة وراثياً، أدى كل ذلك إلى تحميل جسم الإنسان الكثير من المخاطر الصحية، المعروف منها والمجهول، وأحدث خللاً وإرباكاً في قدرة الجسم على مقاومة الأمراض.

في جسم الإنسان نظام دفاعي مذهل ورائع يقف المرء أمامه مبهورًا، فلو أراد عدد كبير من البشر أن يحموا مكانًا ويحصنوه لما استطاعوا أن يفعلوا ذلك بهذه الكيفية.

إن الجسم لا يصاب بالمرض إلا إذا تعرض لخلل في أحد أنسجته أو أحد أعضائه، والجراثيم لا تصيب الجسم الصحيح، ولكنها تتغلب على الجسم إذا أصابه الخلل، وهو ما يفسر تعرض شخصين لنفس الجراثيم ولنفس الظروف، ولكن أحدهما يصاب بالمرض دون الآخر.

إن نظاماً غذائياً سيئاً، يعني عجز الجسم عن مقاومة الأمراض المستعصية وأمراض ضعف المناعة، وصار كثير منا وهو يشتري متطلباته من مراكز التسوق أو أسواق الخضار والحبوب أو يرتاد المطاعم والوجبات السريعة يحس بشيء من الخوف، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشترياً حتفه بنفسه فهو لا يدري حجم المعالجات الاصطناعية التي أُخضع لها ذلك الطعام، ولا كيفية إعداده وتحضيره.

اليوم بتطبيق الأنظمة الغذائية الجيدة يمكن أن نكسر من حدة الأمراض والأوبئة الفتاكة، نسعى أن نكون أقوياء ونضيف إلى أجسادنا حيوية ونشاطاً.

مشكلات التغذية غير الصحية لا تقتصر فقط على عدم اختيار نوعية الطعام أو على أمور شخصية للإنسان، وإنما هنالك أسباب متداخلة تقود لعدم إقبال الشخص على الغذاء الصحي، وبالتالي ومع تراكم الأيام والأسباب التي تقود إلى الاعتلال لا قدر الله؛ فمن تلك الأسباب ما هو نفسي أو اجتماعي أو أسري أو جسمي أو شخصي أو صحي.

حياتنا العامة وما يعتريها من مشكلات سواء مع الأسرة أو نتيجة أسلوب الحياة قد يكون سبباً من الأسباب المؤدية إلى إثارة الضغط النفسي لدى بعض الأفراد، وقد يشكل واقعاً خطيراً لا يحمد عقباه.

فالضغط النفسي يؤدي إلى إفراز بعض الهرمونات والمواد الكيميائية التي تؤثر تأثيرًا سلبًا في القلب وضغط الدم والأعصاب ومراكز المخ، كما يسبب الضغط النفسي تدني مستوى المناعة الطبيعية ضد الأمراض.

إطالة معدل عمر الإنسان – بإذن الله – قضية بدأت ترخي بثقلها على المجتمعات المتقدمة، لا شك أن التطور الكبير الذي حصل في مجال الطب والأدوية وعلوم الأمراض ومكافحتها، قضى على الكثير من الأمراض، إلا أن نتائج هذا التطور ظهور أجيال من الفيروسات والبكتيريا لديها مناعة ضد العقاقير المصنعة، بدأت تقلق المؤسسات الصحية في جميع أنحاء العالم، وأصبحت الأوبئة تفتك بالبشر بسرعة غير معهودة.

مقاومة الجسم للأمراض غدتْ ضعيفة وعديمة الأثر، وترتب على ذلك ضرر صحي كبير، بسبب ما وفرته التقنية الحديثة من أغذية والاستخدام الواسع للأدوية، أصبحت أرضاً خصبة لانتشار أمراض جديدة ستكون الشغل الشاغل لأجيال المستقبل.

إننا على أبواب منعطف خطير جراء تفشي الأمراض الوبائية والحادة منها والمستعصية والتي تتطلب علاجاً سريع الفاعلية، وهو ما عجزت الأدوية المصنعة كيميائياً هذه الأيام عن مواجهتها.

من هنا فإن التعاطي مع الدواء الكيميائي ليس بديلاً عن الغذاء الصحي الذي يتضمن “حسنة” نفتقدها اليوم، وباتت تمثل مسألة تبدو أكثر تعقيداً مما هي عليه في أحاديث المروجين له.

شكلت الأدوية المصنعة قلاعاً ضخمة من المصانع المادية، فنمت شركات لعبت دوراً مهماً في تثبيت الهيمنة والتوجيه، بدءاً من مراكز البحث العلمي مروراً بالتصنيع وانتهاءً بالتسويق والتسعير، وقد سجلت نجاحات علاجية كبيرة، لكنها فشلت في إلحاق الهزيمة بعالم الفيروسات والبكتيريا، كما جاء الكثير من نجاحها العلاجي على حساب صحة الإنسان نتيجة التراكمات السلبية والمضاعفات وأخطرها التأثير على مناعة الجسد.

لا شك أنّ اتساع محيط ما نتعاطاه من الأدوية يكبر شيئاً فشيئاً، ومصانع الدواء تضخّ أصنافاً دوائية جديدة بين فينة وأخرى.

المرضى والمستهلكون هم ضحية تلك الأدوية والسلوك السيئ لبعض الأطباء، فوصف الطبيب لطفل سبعة أدوية مختلفة؛ هي حالة من حالات الاستهتار والممارسة اللا أخلاقية الشائعة في مستشفياتنا، فثمة إفراط في وصفة بدافع تسريع العلاج أو جني أرباح مالية من الشركات المصنعة والصيادلة، يعطي صورة غير مشرقة للقطاع الصحي؛ تطغى على ما قد يحمله الدواء من عوارض جانبية والحذر المتوجب في استخدامه.

وبدأ الاهتمام مجدداً بتفعيل مقاومة الجسد الذاتية من خلال التوقف قدر الإمكان عن المضادات الحيوية، وتكمن العاقبة الكبيرة في أن الإفراط في استخدامها سيؤدي في وقت ليس ببعيد إلى تقوية مناعة فيروسات وبكتيريا الممرضة وعودتها إلى الانتشار كوباء عالمي، هذا هو الثمن!

أصبح تأثير العلاج بالنباتات الطبية والعشبية معترفاً به على نطاق واسع، وأصبحت عمليات التجريب بهذا العلاج أمراً طبيعياً، والمريض ببساطة يرغب في العلاجات الطبيعية، ويعود ذلك إلى عوامل أهمها: أن الكثير من الأمراض التي يصاب بها الإنسان لا يوجد لها حتى الآن علاج ناجع في الطب الحديث، وأيضاً فشل الأدوية المصنعة في تحسين آليات الشفاء وحث مقاومة الجسم على العمل بكفاءة عالية، كما أن جميع العقاقير الكيميائية تقريباً تسبب آثارًا جانبية سيئة، وهناك رد فعل سلبي هو عدم قناعة المريض بعلاج الطبيب؛ مما يقلل من التأثير الإيجابي على نفسية المريض.

وقد خلصت التقارير العلمية الحديثة إلى أن الأدوية الكيميائية إن شفت عرضًا لكنها لا تشفي مرضاً، لذلك تحولت الأمراض إلى أمراض مزمنة، وظهر الاتجاه القوي نحو العودة للطبيعة.

هذه الأيام لا تكاد تتصفح قنوات التواصل المحلية إلا وتقرأ خبراً مروعاً “انتقل إلى رحمة الله تعالى الشاب فلان الفلاني إثر مرض ألمّ به”، كم من مرة طالعتنا ولا تزال تطالعنا مثل هذه العبارة المفزعة للقلوب تهتز لها كل الجوارح بالضعف مهما كبر المقام وعلت المراتب، وكم من مرة فجعنا بصفة خاصة عندما نقرأ اسماً لشاب نعرفه أو نعرف عائلته من قريب كان أو بعيد، وكم تألمنا وما زلنا نتألم من هذا الذي يحدث في مجتمعنا وبلدنا دون أن يبدو له في الأفق القريب أو البعيد مؤشر على انخفاضه؟

إحصائيات الوفيات في منطقة القطيف وحدها تجاوزت المائة شهرياً، وسجلت أعلى مستوى لها على الإطلاق في شهر ذي القعدة سنة 1441 هـ 183 حالة وفاة – يليها شهر ذي الحجة 173 – محرم 150 – شهر صفر 130 – ربيع الأول 103 – ربيع الثاني 110 – جمادى الأولى 93 – جمادى الثاني 98 – رجب 108 تقريباً بمعدل 130 حالة وفاء شهرياً، وكان المعدل العام قبل الكورونا لا يتجاوز الـ 60 حالة وفاة، المخيف في هذا أن معظم الوفيات من فئة الشباب!! هل يعقل هذا؟

إن ما يحدث عندنا لهو خسارة كبيرة بالأرواح، شباب هم أحبتنا وأبناء مجتمعنا كانوا بيننا وأمام أعيننا وفجأة وفي غمضة عين غادرونا، خطر مرعب لجيلنا، ينبغي في هذه المرحلة العمرية أن تكون الصحة لا مثيل لها.

كنا نتمتع بمعدَّل عمر أعلى ونسبة وفيات أقل، إن هذه الزيادة في معدل الوفيات نشأت من عجزنا عن مواجهة التحديات وعدم القدرة على تحسين نوعية الحياة.

الكثير من الناس يعانون أمراضاً مستعصية، ويلقون حتفهم في وقت مبكر، وهذا ضياع محزن للشباب، مع أنهم يستطيعون اجتناب ذلك لو اهتموا بغذائهم وتغيير أنماط حياتهم.

نرى شخصاً معافى تماماً في المساء، فإذا به يموت في الصباح بمرض مفاجئ، والواقع أن المرض متأصل فيه منذ زمن طويل، ولكن عوارضه الأولية غير المدركة لا تمنع الجسم من القيام بوظائفه.

لقد كان متوسط العمر لجيل الآباء خمساً وسبعين سنة، شبه خالية من الأمراض والآلام، تسمح لهم بقضاء سنوات عديدة في عيش لطيف ومفيد، عاشوا أياماً هادئة هانئة مطمئنة بسيطة، جلبت لهم راحة وسعادة، الشاب اليوم انحطت قواه وقلة حيويته، بما يعتريه من كآبة وبؤس، مرهق بالهموم، مثقل بالديون، مضطرب الحياة والمعاش، وقد أصبح في غمرة ضغط الحياة وقسوة الأيام وما رافقها من قلق وأمراض أمسكت بخناقه، الخطر كل الخطر في أن يصبح شبابنا اليوم على أبواب ضيق الحياة.

إن العيش غير حسن عندما تقترن سنوات العمر بالأمراض وعوارض الضعف العديدة، نعيش عمراً ندفع ثمنه نقداً، فقد أعطت ثمارها نتيجة الإهمال وحرمان الجسم من مقومات الحياة السعيدة.

الأشخاص الذين يتمتعون بنعمة الصحة الجيدة، هم دائماً مهتمون باختيار الأغذية النافعة والمقوية، تغذية جيدة نصنعها بأيدينا!

إن درجة الصحة التي تتمتع بها بعد السنين تحدد سنوات حياتك، فلا تضيعها بدون فائدة.

عندما تسوء حالتنا، والألم يفقدنا متعة الحياة، عندها نشعر بالحزن من تداعيات هذا الزمان.

وليكن شعارنا الغذاء الصحي مضافاً إليه ما أمكن من راحة البال، والأمان النفسي، والثقة بالنفس، إن السعادة والأمل والتفاؤل والرضا تحد من خطر الأمراض أو تخفف من حدته، لأننا نعلم تمامًا مقدار الثمن الباهظ الذي ندفعه عند أي توتر وضغط عصبي، فصحتنا كما نصنعها بأيدينا!

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي