برشلونة زهوة عشق ومرسى المحبين، مشجعون يتلاقون في حضن المدينة، يرتدون قمصان الأزرق والأحمر مطبوع عليها صورة الفتى الذهبي، شوق يأخذهم لمواعيد المباريات، يمنون النفس بهز الشباك، على إيقاع ردح قدمه اليسرى، يقلبون الأبصار على مدرجات “الكامب نو”، يهتفون بصراخ باسمه، دوي يهز أركان المدينة، المتيم معذور في هوى البرسا، والمارد أهداف بلغها وأخرى تعثرت ولوجاً، دقة تمريرات صوبها بقدمه وقدمها على طبق من ذهب، أسكنها رفاقه نشوة نصر.
بين الكر والفر خلاصة موسم أول، لم يبلغ حلم إحراز الدوري وفي الجعبة تحقيق بطولة “كأس الملك” بحصيلة 11 هدفاً.
انتهى الموسم بشحن نفسي وعدم ارتياح الفتى لأسلوب وطريقة المدرب الألماني “يودي لاتيك”، تلميحات بالخلاص منه، همسات انزعاج تدور بين اللاعبين، وإشارات تذمر مرسلة، عن مدرب ليس هو الأكفأ، هناك الأفضل، بلغ الأمر لإدارة النادي بشيء من الامتعاض، فقررت فسخ العقد، لملم المدرب حاله راجعاً إلى ألمانيا الغربية، ذهب حالاً وصرف له مالاً، قبض مستحقاته وأخذ المؤجل.
تولى زمام المهمة مدرب إسباني مؤقت لبضعة أشهر، (خوسيه لويس روميرو) إلى حين يقع البصر على المدرب الأجدر، بعد بحث ومشاورات اختير مدرب لديه رصيد تحقيق كأس العالم 1978، إنه سيزار مينوتي مدرب منتخب الأرجنتين، أتى والخواطر دواخل بهجة من أجل إرضاء عيون الفتى.
وهو القائل في كتابه “أنا دييجو مارادونا” تحت عنوان جانبي من فصول الكتاب حول سيرته الذاتية: “مدرب مهووس: لم أشعر بالسعادة في برشلونة إلا عندما رحل المدرب الألماني يودي لاتيك، ليخلفه سيزار مينوتي، لم أتدخل لإحضار مينوتي إلى البرسا، فقط سألني الرئيس نونيز عن رأيي فيه، فقلت إنه الرجل المناسب، أصبح برشلونة ممتعاً مع مينوتي، فزنا بكأس الملك وكأس الدوري معه، لاتيك كان مهووساً بالجانب البدني. سألت لاتيك يوماً: لماذا لا تجرب تلك التمارين معنا لتعرف ما نشعر به؟ أجابني: غداً، لم أكن أتصرف كطفل مدلل.
في صباح إحدى المباريات طرق شوستر باب غرفتي في الثامنة والنصف، قال لي: المدرب يريدنا أن نتجمع من أجل الجري، كنت نصف نائم، كان ردي، قل له: أنا لن أجري، جاء لاتك بنفسه، قلت من وراء الباب: أنا سأرتاح، في الملعب سوف أجري، أنا معتاد على ذلك، لو لم يعجبه ذلك فليوقع علي العقوبة، بالنسبة للألمان هذا أمر سهل عليهم، يحتسون الجعة ويركضون، فأنا أفهم أهمية الراحة للجسد، لماذا أستيقظ في الثامنة صباحاً من أجل الركض، عندما جاء مينوتي تغير الوضع، كل اللاعبين كانوا يحبونه”.
نعم أيها الفتى الجري سهل على الألمان، وثمة كلام يقال.
معروف عن الألمان حضور اللياقة البدنية العالية وعدم التوقف طوال المباراة، لذا أطلقوا على لاعبيهم مصطلح “الماكينات الألمانية”، نسبة لفخر صناعتهم المميزة بالقوة والصلابة ودافعية الحركة، إنتاج مزدهر للعدد والأدوات الثقيلة والخفيفة، والسيارات الراقية الفخمة بماركاته الشهيرة خير برهان، والتي تعد ماكيناتها الأقوى من بين سيارات العالم.
لولا رعونة هتلر الذي زجهم في حرب عالمية خاسرة، خرجوا محطمين منهكين وسط دمار هائل وتم تقييدهم في النهاية بشروط الذل والعار، وبإجبارهم بالقوة نحو صناعات معينة لا يحيدون عنها، لولا تورطهم في الحرب العالمية الثانية، لما وقف أحد أمامهم لا في التصنيع الحربي ولا الفضائي.
فهم عباقرة العلم والفلسفة والفن والإنتاج، يقدسون العمل أيما تقديس، الألمان أمة عظيمة، كانت سيدة الأمم قبل اختلال موازين القوة.
بالنسبة لعالم التدريب في كرة القدم لكل مدرسة فلسفتها في اللعب، وأيضاً التدريب فن لا يجيده إلا القليلون، ويبقى لكل مدرب سياسته ونهجه، ومعروف عن المدربين الألمان حزمهم وأن اللياقة عنصر أساسي في تدريبهم، ومؤشر لاعبيهم هم الأفضل لياقة على جميع المنتخبات، ومن قوة لياقة الألمان ونفسهم المكائني العالي، حضورهم الفعال في كؤوس العالم، حيث تدلنا الإحصائيات، بأن “المانشافت” الأكثر وصولاً لنهائي كأس العالم، والأكثر لعباً في الدور قبل النهائي وأكثر الفرق لعباً لمباريات في كأس العالم.
أيها الفتى، تغير المدرب الألماني الذي لم تتفاعل معه وأحضر ابن وطنك وأتت البشائر بنتائج محمودة، لكن ما هذا الصدام بينك وبين رئيس النادي؟ أيمثل هو الآخر كابوساً في وجهك!
يضيق الفتى ذرعاً حين يلتقي رئيس نادي برشلونة نونيز، تباينات حوارية بينهما وشطط، والإنصات استجابة شبه كاذبة، والإذعان خضوع لا يحبذه الفتى، شدة تصريحات الرئيس المتصفة بالجدية الكتالونية، تراكمت يوماً بعد يوم، الاثنان يلتقيان في منطقة رمادية ومواقف نافرة، صرامة نونيز مبطنة بضبابية مزعجة من وراء ظهر الفتى، زادة حدتها شرراً تلك المواجهة العنيفة التي دارت رحاها داخل أروقة النادي، إنها مواجهة ساخنة، شهدها “الكامب نو” بعيدة عن الأنظار.
يقول مارادونا: “وصل خلافي مع نونيز إلى الذروة، قبل مباراة نهائي كأس الملك، حضر نونيز مع رئيس إقليم كتالونيا جورجي بوير، أخبرنا بأنا كتالونيا كلها تنتظر تلك المباراة ولا بد من الفوز، كنت أريد الفوز بالكأس، لكن بسبب نونيز لم أعد أريد هذا النهائي، أنا وشوستر كنا مدعوين للمشاركة في مباراة اعتزال الألماني بول برايتنر قبل نهائي الكأس، ابن العاهرة نونيز رفض الاستماع لنا حتى ضغط علينا للعب هو ورجال السياسة في كتالونيا.
كنت فخوراً بأن الألماني العظيم برايتنر يدعوني لمباراة اعتزاله، كان سيرسل لي طائرة خاصة أنا وشوستر، فماذا فعل نونيز معي؟ احتجز جواز سفري، كنت أريد قتله، طلبت مقابلته، ذهبت إلى مقره في الكامب نو، فمنعني مساعده من لقائه، قلت وأنا في ثورة غضبي: سأنتظر 5 دقائق لو لم أحصل على جواز سفري سأحطم كل تلك الكؤوس، رفض الإنصات إلى مساعديه، الذين نقلوا له تهديدي، بدأت في تكسير الزجاج والكؤوس، أحدثت فوضى كبيرة، شوستر يصرخ: هل أنت مجنون؟ نعم أنا مجنون، في النهاية حصلت على جواز السفر، لكن لم أتمكن من حضور مباراة الاعتزال، هددوني بشرط جزائي، فزنا في نهائي الكأس أمام ريال مدريد الذي كان يدربه السيد ستيفانو”.
للمعلومية عن اللاعب الألماني الذي دعاه مارادونا لحفل اعتزاله “بول برايتنر” يطلق عليه جيفارا كرة القدم، للتشابه بينهما شكلاً وحركة، أشعث الشعر ذو لحية كثة، فوضوي، ثوري، شيوعي وغريب الأطوار، معجب بـ “ماو تسي تونغ” قائد الصين العظيم والمناضل الأسطوري تشي غيفارا، لاعب فذ حقق إنجازات خالدة مع الباير والمانشفيت، وهو الذي سجل الهدف الوحيد للألمان في المباراة الختامية لكأس العالم 1982 وبعدها اعتزل اللعب نهائياً.
حين نرى مباراة الغريمين برشلونة والريال التي أشار إليها مارادونا، نجده ممتلئاً عنفواناً مرتسماً في كل حركاته، العيون لا تدرك ما يدور في نفسية المارد من انزعاج متصاعد ضد رئيس النادي وكل ساسة كتالونيا.
تلك مباراة نهائية حاسمة مثيرة في ملعب البرنابيو، التي شهد هدفاً من أقدام الفتى لا ينسى، أولجها الشباك بفن وهدوء أعصاب، ومن روعة الهدف جماهير الريال وقفت تحيي الفتى على صنيع فنه!
يقول مارادونا: “هدف تاريخي في الكلاسيكو: أتذكر مباراة القمة أمام ريال مدريد في البرنابيو سجلت هدفاً رائعاً، ماراثون من منتصف الملعب، هجمة مرتدة راوغت الحارس والمدافع ونقلت الكرة من قائم إلى القائم الآخر قبل التسجيل، كان يطاردني المدافع خوان خوسيه، كان مخيفاً وصاحب لحية طويلة، كان بإمكاني التسجيل، لكني انتظرته حتى يأتي من خلفي، ثم راوغته حتى سقط أرضاً وارتطم بالقائم”.
تكمن جمالية هذا الهدف بأنه جاء على ملعب الغريم التقليدي، وسط حشود مناصريه، التي من فرط إعجابها تهب وتقف تحية تقدير بتصفيق حار للفتى، هذا من النادر أن يحدث، فن اللعب يجبرك لاإرادياً أن تحيي صنيع من فعل.
إيه يا برشلونة النادي والمدينة والإقليم، لديكم أغلى لاعب في العالم يطرب المحبين وينال استحسان الخصوم، كيف تتحملون جنونه!
هل يغض الطرف عنه، ليتماشى ويتوازى مع جنون فنه، مدركون بأن لعبه يطرب الجماهير متعة ومسرة، فلا مناص من قبول شطحاته وحالات الهذيان، فنه الآسر يؤلب عليه الأعداء على حد سواء.