استثمار الوقت الضائع.. في الفكر والعبادة

يعد الوقت هو عمر الإنسان وحياته كلها، لهذا الوقت والإنسان يمثلان حالة متلازمة، لا ينفصلان، فكل إنسان عاقل في هذه الخليقة، يعي أهمية الوقت، والوقت بالنسبة له قيمة عالية، معنوية ومادية، أو بعبارة أخرى هو عبارة عن إنجاز مهمات حياتية، فلو هنالك إنسان لم يضع للوقت جانبًا من الأهمية، يصبح إنسانًا بلا أهمية، وبلا منجزات، ولا يوصف على أنه من أهل أولي الألباب، أي ليس من أهل الدراية والمعرفة، إن لم يُحسب كالبهيمة المربوطة همها علفها، كما ذكر عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) حين قال: “ما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها”.

لهذا مفهوم استثمار الوقت له تعاريف كثيرة في العلوم الإدارية، ولكننا نختزلها في هذه الكلمات، على أنه هو عملية التخطيط وممارسة السيطرة الواعية على الوقت في أنشطة محددة، ويقسم علماء الإدارة استثمار الوقت على أنه نوعان؛ الوقت الفعّال، وهو ما يملي الإنسان في دائرة العملية الإنتاجية، والنوع الآخر الوقت الضائع، وهذا ما اهتم به المختصون في علم الإدارة والاجتماع، في كيفية تحويل الوقت الضائع إلى وقت إنتاج.

أهل الاختصاص من الإداريين والاجتماعيين، عندما تناولوا دراسة الكثير من الشخصيات الناجحة، وفي مجالات عديدة ومختلفة، اكتشفوا سر هذه النجاحات، وهو استثمارهم قانون الوقت الضائع، ووضعوا له مفهومًا، على أنه استغلال كل ثانية في يومك بحكمة، وقانون استثمار الوقت الضائع له نوعان، وقت يسمى بالذروة، أي وقت يكون فيه الإنسان بكامل نشاطه في حضوره الذهني والبدني، والنوع الآخر، ما يسمى بوقت الخمول، أي يكون فيه الإنسان بأقل حالات التركيز والحضور الذهني.

لعلك قد تتساءل مع نفسك أو مع أحد من أصدقائك، كيف أحقق إنجازاتي، أو ممارسة هويتي أو أي شيء آخر، لا أرى وقتًا لذلك، حيث تضع علة المشكلة كلها في الوقت، ولو سألت؛ هل ترغب بزيادة الوقت بأكثر من أربع وعشرين ساعة، أي هل تريد زيادة النهار أو الليل؟ لكانت الإجابة وأنا متأكد منها (لا)، إذن المشكلة ليست في الوقت، بل المشكلة فينا نحن، وهي عدم قدرتنا في كيفية استغلال الوقت.

وناتج هذه المشكلة هو أنا وأنت والآخر، حيث تكمن في ضعف استشعارنا لأهمية الوقت، وعدم قدرتنا على إدارته بشكل جيد، وهذا ما يسبب لنا، الكثير من الإخفاقات في تطوير ذواتنا.

أيضًا هنا أطرح تساؤلًا آخر، أين أجد الأوقات الضائعة، لكي يتم استثمارها، ووضعها في قالب الإنتاج اليومي؟
الأوقات الضائعة جزء منها أنت تستطيع صناعتها، كمثال، تستطيع أن تستيقظ من النوم مبكرًا بساعة، أي قبل ذهابك لممارسة عملك اليومي أو مدرستك، عندها قم بتوزيعها حسب أولوياتك، ومن ضمن هذه الأولويات، على سبيل المثال لا الحصر، الاهتمام في رفع مستواك الروحي والإيماني، كتخصيص وقت لتلاوة القرآن الكريم، أو رفع مستواك الفكري، بتناولك قراءة كتاب ثقافي يطور من مستواك في مجال عملك، أو في المجالات الثقافية المختلفة، أو الاجتماعية، أو ممارسة الرياضة البدنية أو الفكرية.

الأوقات الضائعة الأخرى هي المتوقعة والحاصلة يوميًا كوجودك في ازدحام مروري، أو ركوب المواصلات العامة، انتظار دورك لأجل إنهاء معاملة، الفراغ الذي يتولد لديك وأنت أثناء عملك اليومي، الوقت الزمني الذي تقضيه أثناء سيرك للعمل اليومي، ذهابًا وإيابًا، كل هذه الأوقات وغيرها، تستطيع استثمارها بطاقة إنتاجية مفيدة لك.

يذكر لي أحد الأصدقاء الأعزاء، وهو العالم الفلكي القطيفي، الدكتور أنور آل محمد، أنه استطاع قراءة عدة كتب ثقافية ودينية وعلمية، بواسطة القراءة السمعية، من خلال استثمار الأوقات الضائعة، أثناء ذهابه وإيابه من بيته إلى عمله، وفي معظم أسفاره، سواء كانت برًا أو جوًا، وبذلك يؤكد لي أنه حقق إنجازًا علميًا معرفيًا في مختلف التنوع الفكري والثقافي، ولي كذلك تجربة مقاربة لتجربة صديقنا الدكتور أنور، في استثمار الأوقات الضائعة، حيث استثمرت ساعة ذهابي وإيابي، من البيت إلى العمل، بسماع محاضرتين متنوعتين يوميًا، دينية وثقافية، إضافة إلى ما أردده من الأذكار الدينية، كالصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين، والاستغفار، والحمد وغيرها من الأذكار الطيبة، التي تبعث الروحانية وترطيب النفس وتصفية العقل.

وهذه تعد من الأوقات الضائعة في حالة الذروة، أما الأوقات الضائعة في حالة الخمول، فتبدأ في غالب الأحيان بعد الانتهاء من ساعات العمل اليومي، وهنا يمكن استثمارها في الرياضة البدنية، أو أي هواية شخصية، أو المشاركة في دورات تطويرية، أو أي نشاط تراه مناسبًا لك، وكذلك هناك أوقات ضائعة من هذا النوع، وهي عندما تقترب إلى الرغبة إلى ما قبل النوم، يمكن الاستفادة من هذا الوقت، بتلاوة قرآنية، أو بقراءة تفسير القرآن الكريم، أو قراءة كتاب ثقافي أو رواية هادفة، وبهذا استطعت تحقيق مبدأ استثمار الوقت الضائع، واستغلال كل ثانية في يومك وبحكمة.

تخيل أيها القارئ الكريم، لو استثمرنا أوقاتنا الضائعة، سواء كانت في حالة الذروة أو في حالة الخمول، كم سوف نحقق من إنجازات على الصعيد الشخصي، سواء في المجال الديني أو الروحي أو الاجتماعي أو الثقافي أو التخصصي أو الصحي؟ المهم أن نعزم على استغلال كل ثانية في حياتنا، ونتفهم أن الوقت هو عبارة عن إنجاز وتطوير.



error: المحتوي محمي