«تنبيت النخلة» كالعروس تنثر شعرها

مع ظهور طلع النخلة وتفتحها يقوم الفلاح بتنبيتها أو ترويسها وتزيينها بقص السعف والكرب الزائد الذي فوق جذعها، ثم يقوم بتلقيح طلعها وذلك بنثر بودرة (السف) المستخرجة من ذكر النخلة (الفحال) فوق ثمرها أو وضع قطع منه في وسط الثمر ويترك فيها لحين وقت الرطب.

تنبيت النخلة في الزمن الجميل يبرز جمالها كأنها عروس سمراء تنثر شعرها، وتتعطر الأجواء برائحة ثمارها فترسم ربيعًا رائعًا في بلدتي جزيرة تاروت، رائحة الشاي المخدر المعمول من قروف النخلة تشمها في كل بيت، حيث أشجار النخيل بأنواعها كانت تغطي الجزء الأكبر من مساحتها التي كانت تضج بالروح في مزارعها وبساتينها وبحرها، وكانت أرضها خضراء وأشجارها ونخيلها مائلة والورود حولها متفتحة بين أطراف الساقية، وكانت مكانًا آمنًا لمختلف الطيور والحيوانات التي كانت تعيش فيها.

جمال الطبيعة في الزمن الجميل كان زمنًا لا يحمل الأعباء ولا تسكن فيه الهموم، ولا يشغلنا سوى اللعب واللهو في المزارع والبساتين وبين الفرچان، ذكرياتنا الجميلة نسترجعها لنرسمها مع رفقاء الطفولة والصبا بين النخيل والمزارع وفي وسط العيون الطبيعية، وأخص بالذكر “عين أم عريش” ذاك البستان الجميل الذي كنا نلعب ونلهو فيه كل يوم نأكل من خيرات أرضه الطيبة؛ الرطب – واللوز – والرمان -والموز وغيرها، لكنه للأسف أهمل كما هو حال الكثير من البساتين في بلدتي إلى أن اغتالته أيدي سماسرة العقار وحولته مثل باقي البساتين الجميلة في الجزيرة إلى كتل خرسانية لا تسر الناظرين.

الكثير من الفلاحين في بلدتي جزيرة تاروت غادروا هذه الحياة دون رجعة، يرحمهم الله، كانوا أناسًا رائعين عملوا في الفلاحة والعناية بالزراعة والمزروعات وبالخصوص (النخلة)، أولئك الكبار في السن الذين يمتلكون معرفة غريزية بكل شيء يحيط بالنخلة، صنعوا من حياتهم طريقًا كان قاسيًا في المزارع والبساتين من دون تعب، وعملوا ما كان يملى عليهم بكل صدر رحب، أشتاق لهم وأتمنى أن أصبح مثلهم لأعيش حياتي بكل عفوية.

عندما نعيد الذكريات اليوم ونذهب إلى ذلك المكان الذي مررنا به يومًا ويسكن في أقصى القلب، نرى أن تلك النخلة التي ودعتها يومًا كانت فتية لا تنام على بساط الأرض الواهنة، لكنها اليوم قد توسدت التراب وتلحفت بغبار ما تجرفه الجرافات من تراب مما تبقى على أرض البستان، وكل الذين كانوا يُنَبِتُون ويخرفون عذوقها من رجالات بلدتي تواروا تحت التراب يرحمهم الله تعالى.

الفلاحون في بلدتي رحلوا وتركوا النخلة في البساتين والمزارع تلملم عراها، وتشرب من بقايا تصريف المياه جفاف مراحلها، وتنشر سعفها اليابس على جذعها الذي صار أشبه بحبال معلقًا فوق ظهر مراكب الصيادين، وجذوعها صارت نواقيس تدق أجراس القيامة، ودمرت أعشاش الكثير من الطيور الجميلة والحمام فغادرت المكان بعد أن تحولت البساتين والمزارع إلى كتل خرسانية.

وفي الختام آه آه أسفًا على تدمير البساتين والمزارع في جزيرة تاروت وفي الكثير من قرى القطيف، ولم يبق اليوم غير العصافير التي تغيرت أصواتها تحوم في المكان، مذكرةً خلق الله تعالى بأن ما حَدَثَ للنخلة شيء من البهتان، وكل ما جرى عليها أمر يندا له صدر الحمامة النائحة “يا فاته يا بيتي” على طرف خفي فوق ما تبقى من سعف النخلة.



error: المحتوي محمي