غفوة ضمير

صحوت من النوم على وقع صوت جرس البيت وهو يرنّ بشدّة فخرجت لأتحرّى من الطارق، فاذا بولد الجيران قابعاً خلف مقود سيارته.. لم أستوعب زيارته لي في مثل هذا التوقيت خصوصاً أنه قطع التحدث معي منذ خمس عشرة سنة إثر شكوى منه بلّغتها لوالده عندما رمى جدار منزلي بعلبة زجاجية تفرقت شظاياها على كامل حرم بيتي! الغريب أنه مجرد أن رآني نزل فوراً من سيارته وبادرني بالاعتذار ودون مقدمات، فقلت له على رسلك وأخبرني بهدوء عن سبب هذا الاعتذار الغريب في هذا الوقت المتأخر؛ ففتح لي ملفاً قديماً يتعلق بسيارتي التي تعرضت وقتها – أي وقت الشكوى – الى شماميخ (خدوش) من الدرجة الأولى في معظم أجزائها من الصدّام إلى الصدّام ولم يترك لي الفاعل مكاناً أفرح به خصوصاً أن السيارة لا تزال حديثة الولادة للتو تخرج من غرفة الوكالة!

ولأنني لا أملك دليلاً مادياً ضدّ الفاعل ولا حتى ساورني الشك بأحد معيّن فقد طويت ذلك الموضوع حينها ونسيته وتركت الأمر لله إلاّ أن الخدوش الأشبه بأدغال إفريقيا لم يكن من السهل عليّ نسيانها فكنت ألتقيها كل يوم أقود فيه سيارتي؛ لذلك كان لزاماً أن آخذ السيارة للورشة لإجراء عملية تجميل سريعة حيث نصحني عامل السمكرة أن أتركها على حالها القبيح لأنها على حد قوله شد وكالة وحرام إدخال أي صبغة مركّبة على صبغة المصنع وطبعاً كان صعباً عليّ أن أتقبّل رأيه رغم صوابه لأن شكل الشماميخ الشجري الكارثي لا يمكن السكوت عنه لأنها مع مرور الزمن سينالها حتماً الصدأ والتآكل؛ لذلك قررت سمكرتها وكلّفني ذلك طبعاً همّا مادياً إضافياً آخر.

للأسف انتظر جاري طويلاً ليشعر بفداحة جريمته وفور استيقاظ ضميره النائم جاء سريعاً ليطرق عليّ باب الاعتذار وينبش ذكرى دفنتها مع النسيان، ولكني لم أرض هذه المرة بتجرّع الألم مرتين فقلت له بجرأة: تو الناس لسه الوقت بدري! ردّ بخجل مطأطئًا رأسه وعينه للأرض: ضميري يجلدني ويؤلمني كلّما تذكرت ما فعلته بسيارتك، قلت له: وأنا من يعالج وجعي وحسرتي على سيارتي التي أصبحت كمريض الجدري شفي ولكن الندوب والآثار لا تزال عليه.. قال لي ببرود: المسامح كريم ووضع مبلغاً من المال في قبضة يدي وقال لي هذا تعويض مقابل التلفيات وإن أردت أكثر فلا مانع من مضاعفته لك! أعدت المال إليه وأنا أبتسم بغيظ وحرقة وقلت له: خذ فلوسك وتوكل على الله فأنا حقّي وكّلته إلى الله منذ خمسة عشر عاماً فابحث عنه في قلبك لعل ضميرك يهديك إليه!

خلاصة ما في القول أنه لا جدوى من إنشاء سور عظيم يحمي قلعتك دون إعداد جنود متمكنين على مستوى عال من الوعي واليقظة والانتباه قادرين على مراقبة كل ما يهدد دولتك وحصنك العتيد، وهذا ما حدث بالفعل مع سور الصين العظيم إذ أنهم بنوا أعظم سور في العالم ولكنهم غفلوا عن أهمية بناء الجنود المكلفين بالحراسة بالشكل الصحيح فكانوا ممراً سهلاً لمهاجمة وتسلل العدو، ولهذا يعتبر الضمير هو الجندي الحكيم وخط المناعة الأول المتمكن من رصد وضبط ومراقبة اقوالك وسلوكك وتصرفاتك وقراراتك وأعمالك ومجرد انخفاض مستواه سيفتح ثغرة لولوج الفيروسات والميكروبات لتهدد صحة وعقل وحياة الإنسان.

لذلك نحتاج دائماً إلى إخضاع ضميرنا بين وقت وآخر إلى عملية استفاقة وصحوة وتذكير ومحاسبة حتى لا يغفو، وهذا بدوره يساعد كثيراً في توضيح الرؤية وتصحيح مسار الخريطة مبكراً قبل استفحال النتائج واتساع رقعة المشكلة كما حدث تماماً مع ولد الجيران في الحكاية التي سردتها لكم حيث يقظة وصحوة الضمير جاءت متأخرة جداً وهي طبعاً خير من ألا تصل ولكن ماذا (بعد خراب مالطا) فليس كل تأخيرة فيها خيرة أحياناً.



error: المحتوي محمي