الدُّخَانِيُّون الجُدُد

على مقربة من حلقة درس ومباحثة يظهر فيها سقراط مع بعض تلاميذه، يمرّ أحدهم متباهيا بجلبابه الحريريّ وحسن هيئته، متفاخرا بمظهره ومشية الخيلاء اللافتة، في لحظة بصر سقراط، ووجه كلامه نحو هذه الشخصية المتبخترة «تكلّم كي أراك» في إشارة تجسّد قراءة سقراط لمشهد الشخصية القشرية المتمادية في سلوكها الاستعراضي على طريقة «الشو» الواهن، وهو الحال الذي تعلو أمواجه في سنوات الألفية الثالثة وما يرشح عنها من سلوكيات لا يمكن نعتها سوى بالابتذال والدونية الأخلاقية.

وعلى قاعدة «اشكي لي، أبكي لك» وفي حركة انقلاب المفاهيم، يغدو السلوك الغريب محلّ استحسان، فيُستحسن فعل كثير ممّن يتبارون في مضامير مسمى المشاهير وهم لا يحسنون صنعا.

وفي أفق أدوات «التواصل الاجتماعي» الصاخبة التي تنبثق ضمن نواتج ما يطلق عليه الإعلام الحديث، وما هو بإعلام ولا يحمل من روح التحديث منفعة، حيث يستمتع المطبّلون بما تقذفه عدسات الكاميرات العالية الدقّة في الهواتف التي كلّما ازداد وصفها بالذكيّة، يتكاثر مشهد الإسفاف الذي يتأكّد خلاله سقم المحتوى وبشاعة الأفكار التي تنوء بها الصور الضوئية والتسجيلات المرئية التي لا حدّ لعددها.

وأظنّ أنّ مضمون المقولة التي تشير إلى سيطرة الشاشات الثلاث على عالمنا، في إشارة إلى شاشة التلفاز وشاشة الحواسيب وشاشات الجوال وما يشابهها، كما يعبّر بهذا التوصيف المفكر السعودي عبدالله الغذّامي لراهن البدايات في الميلينيوم الحالي، ستنضمّ كاميرا الجوال وباقي الأشكال لهذه الأداة إلى مفهوم جديد يمكن أن يكون «سُلطة الثلاث شاشات وتريليون عدسة تصوير»

وبسبب تصاعد الضوئيات التي تحاول افتراس روح البراءة الطفولية في هذا المسرح البصري الذي يعجّ يفشل في تقديم صناعة محتوى يتناسب مع مقوّمات المحتوى الناجح، الذي يحترم معالم اللياقة الإنسانية العامّة ويحافظ على أدبيات الروح المشاعرية الجديرة بالاستحسان، فإنّ أي متابعة أو نشر لمواد من هذه الإصدارات العابثة، يصنّف إعانة في ترويج الخلل وتسويق السقوط واحترام للتكسّب، بل قل التسوّل على حساب براءة طفل أو طفلة، والأمثلة في ذلك تملأ مساحة واسعة من فضاءات المحتوى المنشور.

وكما تصنف المنشورات المقصودة بأنها تخالف قواعد الإعلام والنشر التي تديرها الجهات المختصة، فإنّ الحاجة لتكاتف الوعي الاجتماعي في التصدّي لمثل ذلك، هو طريق سريع لكبح جماح كل صناعة لمحتوى إعلامي يزعج المشاعر الإنسانية والقيم الأخلاقية والاجتماعية.

في الوقت ذاته، إننا بحاجة إلى نشر مفاهيم التصحيح في مناهجنا الدراسية وعبر منابرنا وخلال أبعادنا الاجتماعية المتعددة، ولكنّ بأساليب مؤثرة ولغة جاذبة ودينامية مستمرة.

الدُّخّانيون الجُدُد هم هؤلاء الذين لا يمثّلون ثقلا سوى أنّ الفراغ ما لم يملؤه النافع، سيأتيه الضارّ الوضيع ويحلّ مكان النافع الرشيد، كمّا في حكَميّة الشافعي رحمه الله «ولا تكُ كالدخَان يعلو بنفسه، إلى طبقات الجو وهو وضيعُ».


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي