وداعاً أسطورة كرة القدم (12)

خرجت من نادي برشلونة وملعبه الشهير “كامب نو” بعد جولة استغرقت أكثر من 3 ساعات، راجعاً للفندق سيراً على الأقدام، مشوار استغرق ساعة و37 دقيقة بين سعي في المشي وتوقف عند بعض المحلات وانتظار لفتح الإشارات، أخذت استراحة قصيرة في غرفتنا متواصلاً عبر الواتس مع عائلتي الذاهبة مع جروب الرحلة إلى “الأوت لت”، اطمئنان ورشفات كوب شاي دافئ.

عاودت التجوال وسط أجواء باردة، تقودني قدماي لمركز المدينة، والمسافة منها إلى “الكامب نو” تقدر بـ 4 كم.

أمشي وعيني مفتوحة باتساع، أتأمل الحجر وأتفرس في وجوه البشر وأعاين حركة السير والنظام، أقرأ لوحات أسماء الشوارع والمحلات التجارية، وأصوب كاميرا جوالي لألتقط بين حين وآخر ما يثير حفيظتي ويسترعي الانتباه، لحظات سعد والرؤية مسرة، زمن يمضى دون تعب، المسافات الطويلة تصغر في عيني، أذرعها بمتعة الاكتشاف وحب الاستطلاع، والنفس تتوق للأمكنة التي تثير الدهشة، مثل هذه المدينة الفاتنة الساحرة التي فتنت الفتى الذهبي ردحاً من الزمن، ردح في مضمار ناديها آلاف الكيلو مترات، وجاب شوارعها واختلط بناسها ووقع للمعجبين والمعجبات.

نادي برشلونة هو من أغواه بالمال وأخرجه من دياره في بوينس آيرس، بعمر 22 ربيعاً، حط رحله في مدينة شاسعة ذات هواء معتدل وشواطئ دافئة، أخذته على حين غرة بترفها الباذخ وسهر البارات.

وهو العابر بين الغريمين ذكرى منسوجة بنشوة نصر وغضب وصراخ، وبين ملاعب أكبر مدينتين إسبانيتين، حمل العزم بقدمه اليسرى، منطلقاً كالسهم نحو المرمى.

تتوالى صور الأمس باقتفاء أثر ذكرى الفتى يقودني السير نحو عوالم المدينة الشاهدة ذات زمن على وجوده.

أقارن بين مدينتين متنافستين وأقلب صفحات أرشيف الماضي المزدحم بحركة المفارقات والغرائب، تنافس محموم في كل شيء تاريخياً وإدارياً ورياضياً وجماهيرياً، وبعد معاينتي لهما عن قرب، استنتجت من خلال تجوالي في ربوعهما أن مدينة برشلونة جاذبة أكثر من العاصمة مدريد، حيث تألق الطبيعة بتناثر التلال الخضراء وسلسلة جبال “سيرا دي كولسيرولا”، وتلألؤ نهري “يوبريجات وبيزيوس” اللذان يصبان في بحرها اللازوردي، وتفرد طرزها المعمارية وتنوع معالمها السياحية، وجمالية حيها القوطي الذي يعود بناؤه إلى 1000 عام، وملاجئ الحروب تحت الأرض ورونق الحدائق، ومبنى جمارك مينائها القديم الممتلئ بذاكرة المسافرين والتجار والمتبضعين، وذاك الفنار الساكن على التلة بضوئه المنير يزين سهرات العشاق والمحبين، وساحل ممتد طولاً وعرضاً تصطف عليه ملاهٍ ليلية ومقاهٍ شعبية مشعة بأنوارها على صفحات الماء، موج يزف القادمين إلى عنفوان المدينة.

برشلونة عروسة البحر زادها جمالاً على جمال، مدينة مفتوحة على كل شيء تخلب الحواس.

مررت في أغلب شوارع مدينة برشلونة الرئيسية بالسيارة وجزء ضئيل مشياً على الأقدام، تعرفت على أهم معالمها، وكم بهرتني معمارية “أنطونيو قودي” وكنيسته غريبة الشكل “كنيسة ساغرادا فاميليا”، وكذا تصميمه لحديقة “جويل” الفريدة من نوعها، وأيضاً تصميماته العجائبية لمباني “كازاميلا” التي بنيت ما بين عامي 1906- 1912 وهي مصنفة ضمن مواقع التراث العالمي من قبل اليونسكو، تتوسطان شارعاً فسيحاً يشبه جادة الشانزليزيه في باريس يدعى “باسيج دي غراسيا”، شارع أنيق تتوزع فيه كل الماركات العالمية.

أتأمل المباني المصفوفة بين جنباته، والتي ظننت أن بناء بعضها حديث نسبياً، وحين اقتربت من واجهة بعضها وجدت لوحة تشير لتأسيس البناء قبل 120 سنة وبعضها أكثر.

تنقلت في شوارع برشلونة المشهورة واستمتعت كثيراً بأفضلها “شارع لا رامبلا” الضاج بحركة البشر من كل جنس ولون، نابض بالمحلات والباعة والأكشاك والعروض الفنية، ممتد من الميناء عند دوار كريستوفر كولومبوس إلى وسط ساحة كتالونيا بطول 1,2 كيلو متر، شارع البهجة والمسرة المليء بأجواء السعادة والمرح.

جبت الشوارع الضيقة وتفرعاتها وحتى المنزوية، مدينة ممتعة للتسوق جاذبة بمتاحفها والجاليريهات.

دلفت نحو المكتبات ورمقت عن بعد أهم الشوارع الخلفية والحانات.

أخذني الفضول للاطلاع على الحي الراقي الذي سكنه مارادونا، لكن ضيق الوقت جعلني أصرف النظر.

أنظار العوائل تتفحص مهرجاناً خاصاً بالطفولة مقام وسط ساحة كتالونيا، وثقت كل الأجنحة، وكم بهرتني الأفكار وألعاب الابتكارات التي تشعل عقلية الأطفال نحو البحث والاستنتاج، تعلم عن طريق اللعب وتوسيع لخيال الطفل، وثمة أطفال يلبسون بدلة البرشا يغنون بمرح، وكبار رقصوا هنا استقبالاً واستمتاعاً بلعب الفتى، في هذه الساحة النابضة بالحياة، استذكرت صوراً شاهدتها في التليفزيون قبل 38 عاماً لجماهير البرشا وهي تحتشد ترحيباً باسم مارادونا.

هنا يموج طوفان من البشر باحتفالات فوز برشلونة.



error: المحتوي محمي