عندما رددت على نفسي

أرسل لي أحدهم مرة مقالة، وطلب مني التعليق عليه، وأسهبت أنا في بيان ما اختلفت فيه مع الكاتب شكلا ومضمونا، بل ذهبت إلى أعمق من ذلك معتقدا بأن القضية التي يناقشها أصلا لا تستحق الالتفات إليها وإضاعة الوقت والجهد.

وحين استلم صاحبي التعليق، استلّ سيفه وكان قد ظنّ أنه نال مني، وأشار إلى أن تلك المقالة كنت قد كتبتها أنا وأرسلتها على بريده الإلكتروني قبل سبعة عشر عاما، وأنه قد انتهى بي المطاف رادّا على نفسي.

ولكنني أجبته بأن ذلك أمرٌ جيد، فما الذي يعنيه ألا أختلف عن النسخة التي كنتها آنذاك، وقد كنت يومها طالبا جامعيا في سنواته الأولى، محدود التجربة الحياتية، ومحدود الخبرات الثقافية والاجتماعية، ومبتدئا في مسرح الحياة دون تراكم من الأخطاء والدروس والعبر.

لا يمكن أن أصف بقائي على ما كنت عليه، وما سأكون عليه، مع تقدمي في العمر، سوى أنه أمر مرعب، هو استقالة طوعية عن ممارسة الحياة التي ليست سوى سلسلة غير منتهية من الخبرات الوجودية، التي نجنيها من خياراتنا التي نقوم بها كل يوم.

ألا نتغيّر ولا نغيّر آراءنا، يعني أن نتحول إلى جمادات لا تتفاعل مع كل المتغيّرات التي حولها طواعية، بل تستجيب فقط للعوامل القسرية والقاهرة التي تختطفها تدريجيا.

آراؤنا ليست سوى القناعات التي توصلنا لها نتيجة شروط تاريخية مساوقة لإنتاجها، وهذه الشروط هي التي سمحت لنا بحدود وأفق التفكير، وهي أيضا مشروطة بقدراتنا في وقت إنتاجها والأدوات التي تملكانها آنذاك.

أن يردّ أحدهم على نفسه بعد مرور نحو عقد ونصف، فهو يرد على الرأي الذي أُنتج بما كان متاحا له من أدوات وتجربة، وما سمح به إطار التفكير الذي كان متاحا، وهذا الرد، ليس ردّا على الذات فحسب، هو رد على كامل الإطار والحاضنة التي صنعت تلك الأفكار يومها.

هذا الصديق الذي دفعني للعودة إلى ما تبقى من دفاتري القديمة، وإلى حائطي على «فيس بوك» الذي وإن بقي ألبومي فيه شاهدا على ما أفسده الدهر، فإن «خربشاتي» عليه بقيت شاهدة على ما عبرته في تجربتي، وشاهدة على أنني أتحرك، شاهدة على أنني أبحث عن الوجهة، وقالوا قديما «من سار على الدرب وصل» لكن هل أنا على الدرب؟ لا أعلم ولكنني قطعا سأبقى أحاول الإجابة على هذا السؤال، وهذا البحث يكفي.


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي