إن بعض الذكرى كفيلةٌ بأن تبدل أحوالنا، وتُقلب مزاجنا على حر جمراتها، فهي لِلأحقاد في القلب مؤججة، ولِلسلام في الروح هادمة، ولِنور العقل مطفئة، وإلى الجسد مرهقةٌ متعبة!
لكن.. من منا يا ترى ليس في جعبته ذكرى؟! من منا لم يكتوِ بنار الفراق؟! من منا لم يخذله القريب ولم يكسر قلبه الحبيب؟! من منا لم يتقهقر حينما تطايرت حقائق واقعه، وانكشفت له طلاسم أسرار حكايته؟!
بني قد عانيتُ كثيرًا من ذلك، وإن كلامي هذا قد يختصرُ عليك طول العناء إن فهمته وأدركته..!
اعلم بني أنك ستعيشُ يومًا ما حربًا بين الذكرى والنسيان، حربٌ قد أسرت الكثير خلف (كان)، وأضاعت متعة الحياة خلف (لا أستطيع)، حربٌ قد خلَّفت خلفها الحزن والحقد والضغينة في القلوب، حربٌ قد استحوذ فيها الماضي بالسلبِ على كل ما هو آت..!
بني إن النسيان بعد التناسي هو ما يُعيد الاتزان للقلوب، بني إن ربنا عادل، وإن الصفح والعفو والغفران لا تنزل من مقامنا بل ترفعه عند الله.
بني انظر لها بعين بصيرتك، فكم من صفحٍ أعاد المياه إلى مجاريها، وكم من عفوٍ وهبنا به الحياة، وكم من غفرانٍ أنعشنا به روح ميت.
بني في الواقع نحن من يحتاج إلى الصفح والعفو والغفران عند المقدرة، أكثر من ذاك المذنب نفسه، نحن من نحتاج أن ننسى لِنُريح أنفسنا، ونعيد الاتزان والحياة لقلوبنا، نحتاج أن ننسى لكيلا يكن قلبنا موطنًا تُعشعشُ فيه الذكرى، وتنبتُ فيه الأحقاد إلى أن تكبر مع مرور السنين، فتُغطي قلوبنا بالسواد والهم!
بني أعلمُ أن البعض لا يستحق منا الصفح والعفو، لكننا نستحق السلام لأنفسنا، لذا من لا يستحق شرف العفو منك لا تتكرم به عليه ظاهرًا، واصفح عنه عند قدرتك باطنًا دون إشعاره بذلك، لعل الضمير يوقظه يومًا ما فيعود إليك طالبًا ما منحته أنت إياه دون أن يعلم!
وإن لم تكن قادرًا على العفو فأمرنا وأمرك إلى الله، بني إن العفو لن يُسقط حقك، ولن يُضيعه بلا حفظ، بني حينما تعفو عند قدرتك فإن الله سبحانه وتعالى هو من سيتكفل بإرجاع حقك لك، وما عند الله خير وأبقى.
بُني أيهما أفضل لك ، أن يعوضك الله الكريم عن من ظلمك بعد عفوك عند قدرتك، أم أن الاقتصاص منه أفضل؟!
إن بعض الذكرى كالكابوس لابد من هجرها، وإن العفو ما هو إلا خيرٌ ورحمةٌ لنا وحياة وأمل لبعض القلوب من حولنا.