الأدب في أنثروبولوجيا الزمن القادم

كتبتُ قبل سنوات على سبيل الدُعابة أنه وبعد حين من الدهر ستكتبُ أنثروبولوجيا الزمن القادم، للجنس البشريّ المُنقرض: وقد طوّر الإنسان عاداته في جبر الخاطر، ورفع العتاب، كأن يضع «لايك» ويمضي.

مُحتفظا بتقاسيم وجهه في شاشة، لا تُظهر حزنا من بشاشة، بعد أن تحوّل سبّابته لقلم لا حبر فيه، وجسده لزومبي بشع، يقتات على الجثث الطريّة، ويرقص الراب على البكاء والعويل.

حضرني هذا بعد أن انتهيت من قراءة «بغداد سيرة مدينة» للكاتب العراقي نجم والي، الكتاب الذي جعلني أقرأ حتى آخر رمق، أغفو سريعا لأستيقظ باكرا وأُكمل القراءة.

الرفقة التي سألني الأصدقاء عن سرّها، وناقشت بعضهم في أمرها، جلست معه عند أمي ليالي، بينما تغفو وتنتبه ثم تغفو وتنتبه، وتنظر لي: لما لم أُغير جلستي؟

السيرة التي أعادتني لقراءاتي الأولى ومشاهداتي الألذّ لـ«ألف ليلة وليلة، وشقة الحرية، وأخوة التراب… إلخ»

الأسماء التي جعلتني أفتح «جوجل ويوتيوب» وأقرأ على هامش القراءة، الاستفهامات التي جعلتني أُدوِّن فوق التدوين، فأبحث عن قلم رصاص كل حين، يضيع مني في الجلسات الطويلة.

الوثيقة التي جعلت كل ما يتعلق ببغداد يتقافز أمامي أينما حللت، الشخوص الذين رافقوني في لحظات الانتظار وفي البيت والسيارة وفي كل مكان.

الأمكنة التي جعلتني أبحث عن مكتبة الرحمانية في العراق، فأكتشف رحمانية الرياض ومكتبات الدمام.

الكتاب التي أغلقتُ عندهُ هاتفي ولم أفتحه إلا لـ«google map» لأقيس المسافة بين القطيف والعمارة.

الأحداث التي تذكرت فيها ذكريات أبي، ونفضتُ بها الغبار عن ذكرياتي، ولعي بالتاريخ، شغفي بالجغرافيا، نهم المعرفة.

نعم يفعل الأدب الرفيع كل ذلك، الأدب بما هو نواة ومُنطلق لكل الفنون من بعده: الرسم، الموسيقى، التمثيل، بل إن أي محتوى سمعي أو بصري بشكلٍ عام لا يرتكز على هكذا أدب، بما يحمل من ثقافة في الرواية والشعر والمسرح وغيرها، سيبدو محتوى ضعيفا بلا جذر.

تضعني «سيرة بغداد» كعمل تاريخي وأدبي في هذا الكتاب أمام سؤال مُقلق عن الكتابة، هل كان يُمكن لي أن أعيش تفاصيل هذهِ المدينة – مثلا – عبر العصور لولا الكتابة؟ كيف سيكون شكل الأدب في الأعوام القادمة، بعد تفلّت المحتوى كومضات غير ناضجة، وخُلاصات غير مُكتملة على الإنترنت.

ما حاجة الكاتب للوصف بعد أن تسير البشرية جمعاء نحو ثقافة مُتشابهة، تنمحي فيها الخصوصيات الثقافية، بعد أن نُصبح موحدين في نمط ثقافي مُحدد، تبثهُ العولمة اليوم في كل تفاصيل الحياة؟.


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي