الترمبية

يستحسن بعض الكتاب والصحفيين في سياق دراستهم وتحليلهم لسياسات ومواقف بعض زعماء الدول الغربية من الليبراليين الجدد ممن ارتبطت فترات قيادتهم لبلادهم بأحداث محلية ودولية، استثنائية، تأطير هذه المواقف والأفعال تحت عنوان واحد مشتق من اسم الزعيم الذي تولى قيادة البلاد خلال الفترة موضع البحث والدراسة كـ«الريغانية» نسبة للرئيس الأمريكي ريغان الذي تولى الرئاسة 81-89 و«التاتشرية» نسبة لمارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا خلال 79-90، وكلاهما يعتبران من أبرز ممثلي التيار النيوليبرالي الذين وصلوا للحكم في الربع الأخير من القرن الماضي، وتركوا بصماتهم في المسيرة «الاقتصادية / السياسية لبلدانهم» وتقديمهم كأصحاب مدارس فكرية مستقلة لها مواقعها المميزة في تاريخ العلوم السياسية، وكأنها تيار فكري أو فلسفي متكامل البناء، معفين أنفسهم من الدخول في تفاصيل تفكيكية قد لا تخدمهم في الوصول لمبتغاهم.

وحين النظر لما عاشته أمريكا والعالم من أحداث استثنائية طبعت السياسة الأمريكية وميزتها عن سابقاتها، خلال الأربع سنوات الماضية منذ تولي الرئيس ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ونتائج سياساته على الأوضاع الدولية، فقد بدأنا في سماع مصطلح «الترمبية» بشكل متكرر كمدرسة سياسية جديدة لها أطروحاتها الفكرية الخاصة بها، ومن غير المستغرب أن يخرج لنا من مثل هؤلاء الكتاب من سيقول بأن ما كان يقدمه رونالد ترمب من برامج تلفزيونية دعائية لم تكن مجرد برامج تلفزيونية أحاطت نفسها بدعاية كبيرة، كما هو الحال مع غيرها من البرامج التي تعرض على كثير من محطات التلفزة الأمريكية، وتنتهي بحصول أحد المتسابقين على جائزة مالية، وإنما كانت تحمل في مضامينها مقدمات لهذه المدرسة، التي كان يحضر لها من قبل دخوله معترك انتخابات الرئاسة، فهي ليست وليدة اللحظة «الأربع سنين الماضية» ولم تخرج للضوء دون أعداد مسبق، وأن نهجه السياسي الاقتصادي وبرنامجه الاجتماعي الذي نفذه خلال فترة رئاسته كان تطبيقا لتعاليم هذه المدرسة ومنبثق من مضامينها.

جذب الأصوات عبر البرامج التلفزيونية
لقد استفاد ترمب من شهرته التي اكتسبها من تقديمه للبرنامج التلفزيوني «المبتدئ» لتسويق نفسه في حملاته الانتخابية الأولى، وطبق بمهارة فنون الشعوبية السياسية، جاعلا من شعار «أمريكا أولا» يافطة استخدمها ببراعة كبيرة في الترويج لنفسه وجذب ملايين الأصوات إليه بالذات من العمال البيض من ذوي التعليم البسيط، فقد وجدت مطالبته الشركات الأمريكية التي نقلت أعمالها لخارج أمريكا بالعودة للديار، ترحيبا كبيرا لدى قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي الذي خسر الآلاف منهم وظائفهم بسبب نقل هذه الشركات بعضا أو كامل عملياتهم للخارج «وبشكل خاص للصين» بحثا عن تكاليف أقل وزيادة في الأرباح.

كما جاءت حملاته التمييزية ذات الطابع والروح العنصرية ضد المهاجرين من البلدان النامية «وبشكل خاص المسلمون، مستغلا انتشار الإسلاموفوبيا في الوسط الأمريكي» وإصراره على تسييج الحدود الأمريكية المكسيكية لمنع الهجرات غير القانونية من أمريكا الجنوبية، لتزيد من شعبيته بين فئات واسعة من العمال البيض.

وحينما انسحب من اتفاقية باريس للمناخ أعطى لنفسه الفرصة للتخلي عن كل الالتزامات المفروضة على الموقعين على هذه الاتفاقية، فسمح بالتوسع في أعمال التنقيب واستخراج البترول والغاز الأحفوري وزيادة أعمال التكرير وتمديد الأنابيب من ألاسكا حتى خليج المكسيك، دون اكتراث لأقوال ووجهات نظر علماء البيئة والمناخ المحذرة من هذا التوسع وتأثيراته الكارثية على التنوع البيئي المحلي، جاعلا من استحداث وظائف جديدة في هذا المجال أهم من الأضرار التي ستتعرض لها التربة والمياه الجوفية في مناطق التنقيب واستخراج البترول الصخري على المدى البعيد.

ونتيجة لذلك حققت الولايات المتحدة الأمريكية اكتفاء ذاتيا في البترول، واستردت حتى قدرتها على التصدير، كل هذه الإجراءات ساعدت في انخفاض نسبة البطالة في أمريكا، مقارنة بما كانت عليه في عهد بوش الابن، والسنوات الأولى لولاية أوباما، وهذا ما زاد من شعبيته وقبوله كرئيس ينفذ ما يتعهد به، مثل تخفيض عدد القوات الأمريكية المتواجدة في مناطق النزاعات، التي لقيت ترحيبا واسعا من قبل معظم فئات الشعب الأمريكي.

السياسات الضريبية
كما أن سياسته الضريبية وزيادة الإنفاق الحكومي قدمت خدمات جليلة للشرائح العليا من الطبقة الوسطى الأمريكية، الذين يزيد دخلهم السنوي على 70 ألف دولار، ومعظم هؤلاء هم من البيض وليسوا من الأمريكيين السود أو الملونين الآخرين، أي أن من استفاد من هذا التعديل الضريبي ليس كل الشعب الأمريكي بكل فئاته «كما يدعي» وإنما الفئات العليا من الطبقة المتوسطة والأثرياء والشركات الأمريكية، فتوطدت مكانته بين هذه الشرائح المتواجدة في كل الحقول الاقتصادية وتتمتع بثقل اجتماعي نوعي.

السياسات الخارجية
وجاءت سياساته الخارجية الانعزالية والحمائية ومطالبته حلفاء أمريكا في حلف الأطلسي بزيادة مساهماتهم المالية في ميزانية الحلف، وطلب مقابل مالي من كل الدول الغنية الحليفة والصديقة، باستثناء إسرائيل، مقابل الخدمات العسكرية والسياسية التي تقدمها أمريكا دعما لهم، وزيادة الرسوم على عدد من البضائع الصينية المستوردة، لتعزز صورته كرئيس صادق ومخلص لشعاره «أمريكا أولا» وساهم التوقف عن دفع مساهمات الحكومة الأمريكية في عدد من المنظمات الدولية، تحت غطاء عدم تبذير أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، بدوره في تمرير شعاراته الشعبوية بين هذه الفئات وتعزيز مكانته بينهم.

من هذا نفهم لماذا صوت له أكثر من سبعين مليون أمريكي، وكان من الممكن أن يفوز في هذه الانتخابات لولا سياساته الصحية، أولا تجاه التأمين الصحي بعدم تمريره «أوباما كير» وثانيا وهو الأهم طرق تعامله مع جائحة كورونا.

تجاهل متعمد
إن إهماله وتجاهله لنصائح الأطباء ومنظمة الصحة العالمية، ونكرانه المتعمد للأخطار المترتبة عن عدم الاستعداد لمواجهة فايروس كورونا، ما تسبب في مرض ووفاة الآلاف من المواطنين الأمريكيين، إضافة للأضرار البليغة التي أصابت الاقتصاد الأمريكي، وفقدان أعداد كبيرة لوظائفهم، يضاف إلى كل هذا موقفه المتساهل من الممارسات العنصرية للشرطة الأمريكية، وميله للجوء إلى ممارسات بالغة القسوة في قمع مظاهرات الاحتجاج ضد عنف البوليس وتهديده بإعلان حالة الطوارئ، وتقليص النفقات الاجتماعية وزيادة النفقات العسكرية، وازدياد ظاهرة «العاملين الفقراء» كل ذلك أسهم في حدوث أكبر مشاركة انتخابية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، تشكل استقطابا انتخابيا واسع القاعدة مناهضا له ورافضا التجديد له، وداعما لمرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن «ليس حبا فيه» ولكن لأنه الخيار الوحيد أمامهم لمنع ترمب من البقاء في البيت الأبيض لأربع سنين قادمة.

وهو ما لم يقبل به ترمب «صاحب الشخصية النرجسية والمتفرد برأيه والمعتد بذاته حتى الغرور» الذي حاول بشتى الطرق الالتفاف على هذه النتيجة دون أن يفلح في ذلك.

مليشيات مسلحة
وجاء الهجوم على مبنى الكابيتول في يوم تصديق الكونغرس على نتيجة الانتخابات من قبل مناصريه من المليشيات اليمينية المسلحة «التي من بينها منظمات نازية» بعد خطابه التحريضي أمامهم، ليكشف لنا مدى زيف ادعاءاته باحترام دستور بلاده وتشدق هذه التنظيمات بمبادئ الديمقراطية، واستعدادهم لاستخدام العنف لفرض إرادتهم على النظام السياسي الأمريكي «وهو ما يذكرنا بما فعلته مليشيا الحزب النازي في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي» ورغم أن هذا الحدث قوبل بالتنديد داخل أمريكا وخارجه واُعتبر تهجما شنيعا على الديمقراطية الأمريكية، إلا أن علينا ألا نغفل أن هذا التحرك يتماهى مع الجذور الفكرية لهذه المليشيات، التي تنمو وتتغدى من المواقف السياسية والفكرية للمجموعات السياسية اليمينية سوى داخل الحزب الجمهوري أو خارجه، التي لا يمكن فصل جذورها عن التكوين الطبقي والإثني للمجتمع الأمريكي، وما تضمره هذه المجموعات اليمينية ومن بينها ترمب وزمرته من أجندات خفية تهدف لمنع تشكل أي أوضاع تسمح بحدوث تغييرات في بنية المجتمع الأمريكي.

إن ادعاءات ترمب «كرئيس وليس كمعارض» وأنصاره من المجموعات السياسية اليمينية بتعرض الانتخابات للتزييف وللسرقة، كشفت للملأ عدم ثقة هؤلاء الساسة بالنظام الانتخابي الأمريكي، وأنه بالنسبة لهم وسيلة يمكن تغييرها والتوقف عن استخدامها متى ما عجزت عن تحقيق ما يصبون إليه، وهذا هو ديدن كل المنظمات اليمينية المتطرفة، فبالنسبة لهم الديمقراطية مجرد سلم يستخدمونه للوصول إلى السلطة، دون أن يعني أنهم مؤمنون بها حقا، فالديمقراطية التي يأمنون بها هي التي تتيح لهم الاحتفاظ بالسلطة إلى الأبد.

لقد فشلت محاولة السيطرة على مبنى الكونغرس «الكابيتول» لتعطيل عملية التصويت بالقوة، وهو ما جعل حتى بعض رموز الحزب الجمهوري يتخلون عن ترمب ويتبرأون منه، وفي نفس الوقت حاول بعضهم «لحفظ ماء الوجه» التعامل مع هذا الاقتحام كحدث عابر قام به مجموعة من مثيري الشغب والعابثين بالقانون، وأن معاقبة من يثبت عليه القيام بأعمال تخريبية، سيكون كافيا لطي صفحات هذا الحدث ونسيانه بمجرد خروج ترمب من البيت الأبيض.

من جانب آخر، فإن لهذا الحدث معانيه ومدلولاته الكبيرة التي لا تقتصر فقط على أن فقدان الثقة في النظام الانتخابي وعدم اليقين بنتائجه محصورة على المقاطعين للانتخابات والمشككين في عدالتها كما كان يحدث في الانتخابات السابقة، وإنما كشف للملأ أن هناك عناصر من الطبقة السياسية العليا لا يؤمنون بهذا النظام الانتخابي الحالي، ولا يعدونه كافيا لخدمة مصالحهم وعاجزا عن إيصال القوى المؤهلة لقيادة الولايات المتحدة الأمريكية «حسب رأيهم» لإبقائها زعيمة وحيدة للعالم، وأن استخدام القوة لفرض ذلك ليس خيارا مرفوضا حين تعجز الانتخابات عن تحقيق ذلك، وهذا ما يمكن استنتاجه من خطاب ترمب لأنصاره المحتشدين أمام البيت الأبيض في السادس من يناير، الذي كان يحرضهم على إيقاف عملية التصويت باقتحام مكان التصويت.

قبل مغادرة البيت الأبيض
نحن لا نعلم كيف كان ترمب يفكر حينذاك، وماذا كان يخطط له، ولكن الحقائق والمعطيات المتاحة لنا كتعيين القاضية أيمي كوني باريت «ذات التوجه اليميني» في المحكمة العليا بعد وفاة القاضية روث بادر جينسبرج، والتغييرات المتكررة التي أجراها في وزارة الدفاع وفي الدوائر الأمنية بتعيين موالين له حينما أقال وزير الدفاع مارك إسبر، وعين كريستوفر ميللر، الذي كان يشغل منصب مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ليصبح القائم بأعمال وزير الدفاع، واجتماعاته المتكررة مع كبار ضباط الجيش لمناقشة فرض الأحكام العرفية، مثل هذه الأحداث وغيرها، يدفعنا للشك بأنه كانت لديه أجندة غير معروفة حاول تطبيقها لضمان عدم مغادرته للبيت الأبيض.

توجه نيوفاشي
إذن فالترمبية -إذا جاز لنا استخدام هذه التسمية- بمواقفها وما قامت به من أعمال وأحداث كارثية هي توجه سياسي ذو منحى «نيوفاشي» لم يأت من فراغ ولم يتكون دون مقدمات، وإنما هو نتاج التشنجات والانزلاقات المتتابعة نحو اليمين في البنية الاجتماعية الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، الذي وجد في شخصية ترمب الرمز المناسب القادر على إعطائه الشرعية السياسية والأداة الكفيلة بتحقيق طموحاتهم.

ولهذا، وحيثما سيكون ترمب يمارس نشاطه السياسي سواءً بقي عضوا في الحزب الجمهوري أم خرج منه ليشكل حزبا جديدا، فإنه سيدفع به نحو أقصى اليمين، فبقاء ترمب كلاعب مهم على المسرح السياسي مرهونا باحتفاظه بيمينيته شبه الفاشية، ومن غير المستبعد أن نرى صدور أكثر من مؤلف وأكثر من مقالة تستعرض المقومات الفكرية للترمبية ومؤسسها ترمب، الذي كان رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي