مبدأ الأوميجا المأكولات البحرية والسعي لحياة طويلة وكوكب أكثر صحة

هذا عنوان للكتاب الذي ألفه الكاتب والصحفي الأمريكي بول غرينبيرغ  “Paul Greenberg” ونشرته دار “Penguin press ” عام 2018 م.

وفي هذا الكتاب ينقلنا المؤلف في رحلة حول معظم أنحاء العالم – من بيرو إلى أنتاركتيكا، ومن جزر الكناري إلى ساحل أمالفي، وراء هذه الرحلة قفزات معرفية كبيرة عن مصير محيطاتنا في عصر يهيمن عليه الإنسان، في عالم صعب أدى إلى زوال التوازن البيئي للبحار والمحيطات، فهناك أسماك مهددة بالانقراض، وأسماك أسفل السلسلة الغذائية يتداولها الناس، والاستهلاك غير المسؤول والصيد الجائر.

أسهم غرينبيرغ في اكتشاف الفوائد الصحية للأحماض الدهنية أوميجا – 3  الموجودة في المأكولات البحرية، وإثبات دورها كعلاج طبي وعلاج يساعد قلوبنا وعقولنا.

وتحول هنا جرينبيرج ليس كمستهلك أو مروج للمأكولات البحرية، وإنما أيضاً عقل ينشر ثقافة البيئة والصحة العامة، ويقدم الحلول المقترحة لمواجهة الكوارث البيئية التي تستنفد مخزون الثروة السمكية في جميع أنحاء العالم.

جرينبيرج واقعي فقد تضمن كتابه العديد من المقترحات منها: زراعة الطحالب المحيطية وحصاد العوالق النباتية والمحافظة على تجمعات الأسماك والبيئة البحرية، كما أقترح على الناس أن يكونوا أكثر وعياً عند تناولهم المأكولات البحرية.

ومذكرات مبدأ الأوميجا مثيرة للاهتمام ستجعل الناس يفكرون في قيمة الأسماك التي يأكلونها، ونكتفي هنا بهذه الكلمات التي صاغها المؤلف لتحديد دور الأفراد والجهود المبذولة من قبل الهيئات والمراكز البحثية، يقول: “ليس من العدل أن نقول للناس لا يأكلون الأسماك لأنها معرضة للخطر، ولكن من العدل أن نقول إن الأسماك أصبحت معرضة للخطر وعلينا الامتناع عن تناول أصناف معينة”.

مبدأ الأوميجا هو قصة الدفع والجذب للعلم والأعمال والسعي البشري للصحة والعمر الطويل بأي ثمن كان، قصة تمتد من فجر الحياة المعقدة عبر عصور ما قبل التاريخ البشري إلى العصر الحديث.

في رحلته كشف غرينبيرغ عن ممارسة وتداعيات طريقة الأكل غير المتوازنة لدينا، وحسبما ورد في التقارير التي تفيد بصرامة، فإن “مبدأ أوميجا” هو حجة قوية لعلاقة أكثر تعمُّداً واستشراقاً للأكل الذي نأكله والمحيطات التي تدعمنا.

هو تحقيق مفتوح وراء أوميجا – 3 “المركب المعجزة” الذي تتشابك قصته مع صحة الإنسان والمستقبل من كوكبنا.

وبادئ دي بدء، فإن عالم البحار والمحيطات عالم مليء بالغذائيات لا حدود لها، حيث يزخر بأرقام من الأسماك والقشريات والأعشاب، وكائنات لا يعلم سرها إلا الله عز وجل.

هناك شواهد عديدة تربط بين تناول الأسماك وأمراض القلب والدماغ، والدراسات في هذا الباب ما زالت تدفع لنا بالعجائب!

– في أواخر عام 1970 م نُشرت نتائج أبحاث مثيرة عن العادات التغذوية لقبائل الإسكيمو التي تقطن جزيرة جرينلاند، فقد وجد الباحثون أن معدل النوبات القلبية منخفض لدى الإسكيمو بالرغم من استهلاكهم لأغذية عالية المحتوى الدهني، ويظهر أن السر في نوعية الدهون.

– فى كتابه “The Omega-3 Connection” يعتقد أندرو ستول – أستاذ الطب النفسى فى جامعة هارفارد – أن زيت السمك الغني بالأحماض الدهنية من النوع أوميجا- 3 ربما يساعد في علاج عدد كبير من الاضطرابات النفسية، لأن المخ بحاجة إلى مشتقات هذه الأحماض كي يؤدي وظائفه على نحو ملائم.

– نشر د. إدوارد سواريس، أستاذ علم النفس السريري بجامعة ديوك الأمريكية، مقالاً بدورية “علم النفس اليوم” ذكر فيه أنه في معظم بلدان جنوب وشرق آسيا كاليابان والصين، تعتبر الأسماك من ثوابت العادات الغذائية، وأرجع السبب إلى مجموعة من الدهون التي تحتوي عليها الأسماك تسمى أوميجا -3، فباستبعاد الأسماك من الغذاء تضيع فرصة للحصول على مجموعة مهمة من أوميجا – 3  التي يؤدي نقص إمداداتها للجسم إلى جعل الشخص معرضا أكثر للإصابة بأمراض الدماغ.

ويوصي د. سواريس، بعدم إهمال الأسماك في طعامنا، لأن هذه الأسماك تحتوي على نسبة أكبر من أوميجا – 3  أما الذين لا يحبون تناول الأسماك، فهناك بدائل أخرى جيدة للحصول على هذه الدهون المنعشة للوجدان، منها: الجوز وزيت الجوز وزيت الكانولا وزيت بذر الكتان الغذائي، كما تعتبر كبسولات زيت السمك إضافة مفيدة في هذا الإطار.

– ويقدم “د. جوزيف هيبلين.”، من مستشفى روكنيل بولاية مالايلاند، دعمًا علميًا لهذه الرؤية المستقبلية، فقام بدراسة مقارنة لإحصاءات المرضى بالاكتئاب ومرض القلب وتوصل إلى أن السبب في تدني نسب المرض هو ارتفاع مستويات أحد الأحماض الدهنية في أنسجتهم ودمائهم، هو حامض (DHA) ويتوفر في الأسماك، لذلك يوصي د. هيبيلين مرضى الاكتئاب ومرضى القلب والمعرضين للإصابة بهذه الأمراض، بأن يقبلوا على أكل الأسماك، فقد تغنيهم عن الأدوية.

– لقد توصل خبراء يابانيون إلى أن الأسماك من الأطعمة المفيدة للغاية، إذ يحتوي السمك على مادة (DHA) كما تعمل على تنشيط نقاط الاتصال العصبي التي تعمل على تنقل نبضات الذاكرة داخل المخ وتحمي البصر، وتمنع الجلطات الدموية.

وتوجد مادة (DHA) بشكل مركز في شبكية عيون الأسماك وخصوصًا أسماك التونة والسردين، وقد لفت أنظار الخبراء أن الأطفال اليابانيين أحرزوا نتائج باهرة في اختبارات مقياس الذكاء، لأنهم غالبا ما يأكلون الأسماك.

شغلت أمراض القلب والعوامل المسببة لها اهتمامات العلماء في الأوساط الطبية كمحاولة للسيطرة عليها والحد من أخطارها ومضاعفاتها، وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن الأحماض الدهنية في الأسماك من نوع أوميجا – 3 يحتاج إليها جسم الإنسان، ولها دور هام في حمايته من النوبات القلبية وأمراض الدماغ، وهذا ما دعا مراكز الأبحاث تصب نشاطها في دعم الأغذية بالعناصر المعدنية والفيتامينات ودهون الأسماك لحل مشكلات نقصها بين الشعوب، وهي أغذية ذات استخدامات خاصة، كتدعيم أغذية الأطفال الرضع حديثي الولادة بزيت السمك لتزويدهم بفيتامين D الذي لا يتكون في أجسامهم، هذه الدهون تلعب أدواراً هامة في الجوانب التغذوية والصحية.

وقد أجريت أبحاث عديدة لمعرفة الفوائد الحقيقية للأوميجا – 3 في الغذاء، وأثبتت الأبحاث الحديثة أن أكل الأسماك بصفة منتظمة قد يؤدي إلى نتائج باهرة منها:
• تخفيض مستوى بعض دهون الدم التي قد تعرّض القلب لخطر أمراض الشرايين التاجية.
• تقليل خطر تجلط الدم بتقليل لزوجة الصفيحات الدموية.
• تخفيض ضغط الدم للأشخاص الذين يعتمدون على الأسماك.
• تأثير كبير على الذاكرة وعلى الحالة النفسية والمزاجية.

وتعتمد كمية الدهون في السمك على نوعه وعمره وموسم الصيد وحالة التكاثر، لذا يصعب تحديد كمية الدهون بصورة قاطعة في السمك من النوع نفسه.

وتصنف الأسماك إلى: مرتفعة الدهون مثل سمك الكنعد والسالمون وأخرى متوسطة الدهون مثل الهامور والشعري وأخرى منخفضة الدهون مثل البلطي والبوري.

ويخزن الدهن عادة حول الرأس وفي الظهر، ويعتبر الكبد مخزناً مهماً للدهن في الأسماك، كما أن اللحم الداكن يعتبر أكثر دهناً من اللحم الأبيض في الأسماك، وتعتبر منطقة الذيل أقل دهناً من أعلى السمكة.

تشكل المأكولات البحرية المحور الأساس للوجبة اليومية لسكان المناطق الساحلية، وتمثل نموذجاً حياً للوجبات الغذائية المتوازنة، كما أنها نموذج لأغذية مشوقة في طعمها ونكهتها المعروفة وفوائدها الصحية.

وتختلف كمية الأسماك المستهلكة اختلافاً كبيراً بين السكان حسب الموقع الجغرافي، حيث تستهلك بكميات كبيرة وخاصة لسكان المناطق الساحلية والمناطق الواقعة على ضفاف الأنهار وأطراف البحيرات، وتقل الرغبة لسكان المناطق الداخلية، وهذه الحقيقة مع المعلومات المتوفرة من اليابان والملاحظات السريرية توضح أن الاستهلاك الأسبوعي المنخفض إلى المتوسط للأسماك يعد مرتبطاً بالصحة الممتازة، فالأسماك نموذج حي للغذاء الصحي، فهي أغذية مشوقة في طعمها ونكهتها المعروفة وفوائدها الصحية.

أحبذا أكل السمك بكميات كبيرة  وبشكل يومي من منطلق النكهة والطعم اللذيذ.. فهل لذلك أضرار؟ سؤال كثيراً ما يجري على الشفاه، والواقع أن السمك غذاء مفيد جداً، ومن المصادر الأساسية للبروتينات التي يحتاج إليها جسم الإنسان، ومصدراً جيداً لفيتاميني A وD، ولبعض المعادن خصوصاً اليود والكالسيوم والفوسفور، ودهون الأسماك  “أوميجا – 3” المفيدة لأمراض القلب والدماغ، لكن هناك من يكونون مصابين بالتحسس من تناول المأكولات البحرية، فمن الأصح والأسلم عدم المبالغة في تناول الأسماك والمأكولات البحرية عموماً، لأن الإفراط فيها تؤدي إلى مشكلات في الجهاز الهضمي وربما تسبب تسممات بالمعادن الثقيلة كالزئبق والكادميوم، ومصدرها الملوثات المائية في البحار والمحيطات، فهذه الأضرار ليست في الواقع سوى تظاهرات تحسسية وكوارث عرضية يمكن السيطرة عليها إذا اتخذت بعض الاحتياطات البسيطة.

لا بأس من ذكر بعض الأمور لأهميتها ولحاجة المستهلك لإدراكها، فما أحوجنا اليوم قبل الغد إلى غرس المفاهيم الغذائية وسط مجتمعنا وفي عالم تسوده حماقات أهل القوة المادية.

هذه الأيام لا تكاد تتصفح قنوات التواصل إلا وتشاهد مقاطع فيديو لعروضات قوية، أسماك بجميع الأنواع والأصناف والأحجام تصلنا من خارج حدودنا، فاضت بها أسواقنا، وبأسعار زهيدة لا تقاوم، تغري المشتري فيضطر إلى شراء كميات كبيرة، وقد لا يحسن حفظها في ظروف صحية لفترة طويلة، ثم قد يفاجأ بهذه الأسماك بعد فترة وقد فسدت أو فقدت نكهتها وطعمها الطازج.

اليوم أصبحت الأسماك في متناول الناس، ولم يكن من قبل بمقدور الكثرة من الناس شرائها وكانت العملية مقننة ومحسومة، نعم امتلأت أسواقنا من هذه الأسماك، أسماك مبردة قطعت القفار والبحار لتصل إلينا تبخس خصائص الطراوة والنكهة بفعل التغيرات الكيميائية  وارتفاع مادة “الهستامين” التي تتكون بسرعة عند موت الأسماك من جراء بُعْدُ المسافة وسوء التخزين والنقل والتداول، وبالطبع هي أقل جودة ومأمونية مقارنة بالأسماك المحلية، وقد يلجأ البعض إلى معالجتها بمواد حافظة!!

بسبب إيقاع الحياة السريع ومعركة الحياة اليومية، وخروج المرأة إلى العمل، أقبل الناس على تناول الأطعمة في المطاعم وأمكنة الوجبات السريعة، حيث إن الكثير من مرتاديها معرضون لسلبياتها، ولكن ما يثير الخوف في هذه المطاعم هي طرق إعداد المأكولات البحرية من أسماك وقشريات، فهي ملاءمة للصحة قبل إعدادها للأكل، ولكن الكثير من السمات الملائمة للصحة فيها يمكن أن تفقد بسرعة إذا حضَّرت الأطعمة البحرية في وسط كثير الدهون، وقد ينتج عن الاستخدام الجائر لزيت أو دهن القلي مركبات خطيرة لها علاقة ببعض الأمراض المستعصية وأيضا تفقد الأسماك قيمتها الغذائية.

ولكي تتمتع بمميزات الأطعمة البحرية وتتجنب مضارها حاول ألا تأكلها مقلية بالزيت خصوصاً تلك المغطاة بطبقات من البيض وفتات الخبز أو العجين السائل، أو تلك المخبوزة في الفرن بعد تغطيتها كذلك بطبقات من الصلصات الدسمة، تناولها مشوية أو محمرة أو مطهوة بالبخار أو مطبوخة مع المرق.

والهدف من ذلك هو المحافظة على قيمتها الغذائية باستخدام طرق الطهي الصحية، فزيوت القلي تعمل على خفض في كمية الدهن وفي نسبة الأحماض الدهنية عديدة عدم الإشباع، ويعود ذلك لنزوح قطرات الدهن من لحم الأسماك وفقد جزء من Omega – 3.

إن إضافة زيت السمك طبيعياً إلى الأغذية أو في شكل كبسولات صيدلانية أو مكملات غذائية قد يوفر وسيلة لزيادة المأخوذ من الأحماض الدهنية عديدة عدم التشبع المسماة بوفا (PUFAs)، وهي حمض إيكوسابنتاينويك (EPA) وحمض الدوكوساهيكسانويك (DHA).

من المعروف أن لهذه الأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة فوائد صحية متنوعة ضد أمراض القلب والأوعية الدموية (CVDs) بما في ذلك تأثيرات نقص الدهون الثلاثية الراسخة والمضادة للالتهابات، أيضًا  تشير الدراسات المختلفة إلى تأثيرات واعدة لارتفاع ضغط الدم، ومضادات السرطان، ومضادات الأكسدة، ومضادة للاكتئاب، ومضادة للشيخوخة، والتهاب المفاصل.

وعليه يمكن تقييم مدى استفادة الجسم من زيت السمك سواء عن طريق تدعيمها للأغذية أو في شكل كبسولات، يعطي الجسم فرصة لزيادة المأخوذ من هذه الدهون والتي يوصى بها حالياً للصحة والوقاية من الأمراض بإذن الله سبحانه وتعالى.

الغريب في الأمر، حسبما يتوقع المهتمون بالمستقبليات، أن التوجه العام سيكون نحو الاستعانة بالثقافات التقليدية للشعوب في إعداد هذه الوجبات العلاجية، وأن الاعتماد الأساسي لبائعي الأطعمة الدوائية سيكون على المصادر الطبيعية البحرية.

منذ فترة طويلة احتفل الأطباء واختصاصيو التغذية بالأحماض الدهنية بالأوميجا – 3 كمفتاح لصحة القلب والدماغ، وأكدوا أن فيها يكمن الوعد بحياة أطول – بإذن الله –  وقد تم تغليف هذا الوعد في واحدة من المكملات الغذائية الأكثر شعبية في العالم، حيث تحوّلت الأوميجا – 3 إلى تجارة بمليارات الدولارات، ولا تزال مبيعاتها تنمو بسرعة.


منصور الصلبوخ

اختصاصي تغذية وملوثات



error: المحتوي محمي