بسم الله القائل (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، والحمد لله حيث يقول (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه…)، والصلاة والسلام على مـَن طريقهم جنة للسالكين، وحبهم أماناً للخائفين، محمد وآله الهداة الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين.
توضأت وصليت ركعتين وتليت دعاء السوق على عجل لم أعِ معناه، وأخذت محفظتي قاصدة سوق الحياة، الواقع في مسرح الكوكب الأرضي، سوق تمتزج فيها أخلاط البشر بدءاً بـ (سيماهم في وجوههم)، مروراً بـ (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا)، إلى (كأنهم خشب مسندة)، وهناك قابلته وتصافحنا، دون التريث للسؤال عمن يكون، وسار كما الظل يسير، وأنا بما يمليه علي مستمعة.
مع العلم بأن هناك آخر التقيته، وأسدى كلمة بهدوء تنم عن قوة وصلابة في شخصه، يلوح بيده مرة ويُسدي أخرى، لكنني لم أعبأ به كالآخر.
وجلت في السوق شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، لم أر متاجر كمتاجرها في حجمها، تلك التي رأتها عيني، وعايشتها نفسي، وقد وُزعت بطريق عشوائي مقصود لجلب الزبائن إليها، وترتفع الأبواق تعلن عن جودة بضائعه بطريقة (يرضونكم بأفواههم).
فهناك في الزوايا توزعت الملاحم (ملحمة) لبيع اللحوم البشرية، يلتفت يميناً وشمالآً من يرتاؤها، وكأنه ينزوي من أحد كي لا يراه، لكنه يشتري من تلك البضاعة ويسير دون أن يشعر بكم ابتاع، اشتريت منه كمية لا أعرف كمها ولا وزنها، دفعت ثمنها دون الشعور بثقلها.
وسرت متجهة صوب بقالة صغيرة في وسط الباحة عنوانها (ويربي الصدقات)، اشتريت منها قليلاً، وما لبثت أن بعت ما حصلت عليه لبائع متجول، أطلق على نفسه (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). وفي الكفة الأخرى الحقد بين يديك فلا تتردد في اقـتنائه، وقفت عنده طويلاً، أحاوره، أناقشه، ساومني بسعر زهيد لكيس صدقتي، فوافقت دون تردد وقبضت الثمن.
خطوات وإذا أنا بمجمع تجاري كبير ذي عنوان رئيسي واضح “مراكز موسمية” وتمخض عن عدة لافتات صغيرة إحداها (فأن لله خمسه وللرسول….. )، تجاهلتها ولم أبتع منها شيئاً وكأنها لا تمسني بشيء، مع أن البائعين من أهل التقى والصلاح، ذوو حاجة إلى ما تشتريه منهم، ولكن لم تحرك تلك الصورة مني ساكناً.
وقبل أن أدير الطرف تنبهت إلى عبارة على المركز الآخر (ولله على الناس حج البيت)، شدتني هذه اللافتة فدفعت لبائعها الشيء الكثير ووُفقت في الحصول عليها كاملة، لا سيما أن مسيرتها طويلة تحتاج إلى راحلة كي تحملني إليها، تغلبت على مصاعبها ورجعت فرحاً بها، وفي طريق العودة من استلامها، أخذنا نبتاع ما طاب لنا من بضائع، مع الخلة التي رافقتني، وعلى جانب الطريق بانت لائحة تقول (وأمر بالعرف) تقابلها (لا يتناهون عن منكر).
اتجه كل منا وجهته، وكان نصيبي (لا يتناهون)، أدهشني المكان بما يحويه وأغرتني ملاهيه وصوره، فأنزلت ما بحقائبي لأستبدلها بما تناثر في ذلك المكان، وكان لي ما أردت، وظللت سائرة أبتاع وأشتري حتى عدت إلى نقطة المراكز الموسمية لألج في (كتب عليكم الصيام).
كل ما لذّ لي في هذا المتجر أحضرته، ودونت جميع المعلومات التي سطرت على علب مأكولاته، لكنني تناسيت ما كتب، ففسد الطعام!!
وهكذا سرت كالفراشة من زهرة إلى أخرى، تحملني قدماي حيناً وأشد راحلتي حيناً آخر، يسايرني رفيق، أو أقطعه وحيداً، حيث بعضه سهل والآخر صعب، بعناء وبدون عناء، عبر الأجهزة الحديثة، أو عبر مركبة الحياة، وأكملت المشوار بيعاً على صندوق الأمانة، وشراءً من أكل حقوق الناس، وإلى العقوق، حتى أخذ مني الجوع والعطش عند مطعم (السخرية بالآخرين)، ووُضعت المائدة بمأكولاتها المسكرة التي أشبعت بالبهارات الحارة، وتنوعت بالمشروبات الطازجة، التي تنسيك المكان الذي أنت فيه، فيأتي دور السكريات الفاخرة بألوانها، حتى أُصبت بالتخمة، وكنت عن ذلك راضية!!
إلى أن جن علي الليل، وعند بوابة الخروج رفعت طرفي لأرى (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، تذكرت حينها لائحة المدخل (ولا تسرفوا)، لكن لغشاوة على بصري تناسيتها.
وصلت إلى المأوى وافترشت بضائعي، راجعت حساباتي، فإذا محفظتي قد سُلبت مني عن آخرها بإرادتي، وكل نافع تخلصت منه ببيعه، وما لا طائل من وجوده جلبته معي، أدركت حينها أن من رافقني شيطان من شياطين السوق، ومن تجاهلت صحبته ملاك ضميري.
وصدق بي الحديث الشريف “ويلٌ لمن غلبت آحاده عشراته”.