على وقع صيف حار أسدل الستار على مونديال إسبانيا، الذي ابتدأ يوم 13يونيو وانتهى 11 يوليو – 1982، قرابة شهر من التنافس المحموم بين المنتخبات جمعهما 17 ملعباً موزع في 14 مدينة.
غادر الجمع بين زغاريد فرح ودموع خيبات، وإيقاع رقص ورفرفة أعلام، امتزجت برحيل 24 منتخباً يمثلون دولهم ومن جميع القارات، وبأجمل ذكريات النصر للاتزوري الذي خطف الكأس من وسط أقدام الجميع.
لملمت الجماهير بعضها وسكتت طبول التشجيع، توقف ردح اللاعبين إلا الفتى الذهبي بقي في الأراضي الإسبانية يجوب ربوعها مع مواطنه “ماريو كيمبس”، مهاجم نادي إشبيلية.
المدن القديمة تحيي الفتى الذهبي بترحاب، وملاعب تجدد له أعطر التحيات وأخرى تنتظره بصيحات، هتافات قادمة على امتداد المستطيلات الخضراء موعودة مع ركضه حصاداً وشغباً وعنفواناً.
جماهير برشلونة متعطشة لرؤياه، ترسم الانتظار لهفة شوق على إيقاع رجليه، كل عيون الإسبان ترقبه بتباينات الميول وهوس الجنون، كل يتطلع إليه بتحفز، بين ولي حميم وخصم عنيد وعدو عتيد.
عدسات المصورين مستنفرة تلتقط تحركات الفتى أثناء التدريبات، صحف تقتنص جريه داخل الملاعب وتلهث وراء تصريحاته خارج الأسوار.
أسئلة مرتقبة كشوق عيون المحبين، ماذا سيقدم من عطايا كروية للمتلهفين؟
وجوده مغامرة، فقد أتى بعناد مستميت، أحضره الكتالونيون بعد تنافس محموم بينهم وبين الإنجليز، لقد ظفروا به بصفقة العمر 8 ملايين دولار إلا قليلاً، ليكون ضمن قلعتهم العتيدة، عنونت كل صحف العالم بأن الفتى الذهبي هو أغلى لاعب في العالم، مبلغ أغاض الكثير من لاعبين وبعض مسؤولي الأندية الشهيرة، تتوالى نظرات حسد من نجوم الملاعب المتسيدين أعلى الأسعار، لماذا يكون هو أعلى منهم مبلغاً؟
الغيرة فحش نفسي تدب في كل مناحي الحياة.
حينها أخبرت أخي محمد العسكري بأن مارادونا هو أغلى اللاعبين، ماذا يعني ذلك؟ جاوبني: “نعم هو الأغلى لكنه ليس الأفضل، وسعره مسألة عرض وطلب، من دفع أكثر حصل عليه، مكابرة من نادي برشلونة لجلبه بكل ما أوتي من قوة حتى لا يذهب لنادٍ آخر”.
كنت متمسكاً بقناعتي طالما هو الأغلى إذاً هو الأفضل، وكنت مصراً بعناد على أنه اللاعب الأفضل والأحسن من دون تثمينه بسعر معين، الأيام بدلت قناعات الأصدقاء بانحياز نحو الفتى، لأن إنجازه فيما بعد كان خير برهان.
ها هو الدوري الإسباني يطرق الأبواب، موسم جديد يحل مارادونا ضيفاً عليه لأول مرة، وثمة أسئلة تتوالد، يا ترى ماذا سيصنع الفتى بعالم المستديرة بعد إخفاقه في كأس العالم وتنقلاته لثلاثة أندية أرجنتينية، فهو الآن على المحك الأوروبي بمساحة أكبر وزمن أطول، كيف يجابه بذخ القارة العجوز.
نزل مارادونا الملعب يرتدي قمصان نادي برشلونة بشعاره المخطط بالأزرق والأحمر.
انطلق الدوري وعجلة المباريات لا تتوقف، جولات حامية من مدينة لأخرى والنتائج متباينة، البرشا يترنح بين مباراة وأخرى، وشيء من الذهول.
كنا نتابع الدوري الإسباني باقتضاب، نتف متطايرة لأخبار عابرة، كم نمني النفس أن نرى الفتى بين صفوف فريقه الجديد عبر بث مباشرة من خلال مباراة كاملة، حسبنا الصحف والمجلات الرياضية التي لا تشفي الغليل، نتحرى ردح الفتى وإن كان لمماً، نقتنص أخباراً سريعة حول ترتيب الدوري وأسماء الأندية الإسبانية المشتقة من أسماء مدنها الضاربة في القدم، ولنا شوق بترديد نطقها عربياً، گرانادا(غرناطة) وسيفييا (إشبيلية)، وگرودوبا (قرطبة).
ومع جرس ذاكرة المدن نستعيد أمهات كتب الضاد والمخطوطات العتيقة، ننفث الآهات على الفردوس المفقود، ويا طوق حمامة ابن حزم لا تنوحي فنحن البكاؤون على ماضٍ تولى، كان مجداً وصرحاً من أحلام فهوى، وأضحى العز سراباً مع زفرة العربي الأخيرة، وجداننا ينشد تلك الأمكنة بفرح وطلل، ويسترجع الأيام الخواليا ببكائية عزف منفرد، صوت أسى تتلوه الحناجر، نجر الآهات “يا زمان الوصل بالأندلس”، نراها طيوفاً من خيال.
نتتبع أخبار الدوريات الأوروبية ما بين ليلة وأخرى عبر التليفزيون مع نهاية كل نشرة أخبار.
مشدودون للدوري الإيطالي فهو الأبرز والأمتع ومليء بالنجوم من كل حدب وصوب، أما الدوري الإسباني لم يأخذ بعد مكانته عندنا وكذا عالمياً، نعرف بعض الشيء عن معمعة الصراع المستعرة بين ريال مدريد وبرشلونة، وبروز أتلتيكو بالباو أحياناً في الواجهة.
لا أذكر أحداً من الصحب أبدى تعاطفاً مع البرسا أو الملكي، فحمى الناديين لم تصل إلى محيط منطقتنا بعد.
خلال عقد السبعينات كان اهتمامنا منصباً على الدوري الإنجليزي وخصوصاً نهائي الكأس، حيث ينقل على الهواء مباشرة بصوت المعلق الفلسطيني “أكرم صالح”، وميل نحو نادي ليفربول عند بعض الأصحاب، يرددون نجومهم المفضلين، وأبرزهم “كيگن كيگان” اللاعب الفنان صاحب رقم 7.
لكن سرعان ما خفت ضوء الدوري الإنجليزي وتوجهت الانظار للدوري الإيطالي وما بينهما الدوري الألماني بعض الشيء، وثمة انتعاش ولكن على استحياء نحو الدوري الإسباني، كل ذلك نشهده عبر متابعتنا لبرنامج عالم الرياضة الأسبوعي في أغلب تليفزيونات الخليج، والتميز لتليفزيون قطر، ساعة مع عالم الرياضة من إعداد وتقديم الثنائي سعد الرميحي وأيمن جادة طوال عقد الثمانينات.
حماس يأخذني لشراء تليفزيون ملون، استشرت زملائي عن أفضل الماركات، قيل لي الفيليبس أفضل، بينما التوشيبا أحسن، أخيراً قررت شراء تليفزيون ملون مقاس 32 بوصة ماركة ناشيونال مع “انتل ويزي”، ركنت التليفزيون القديم ذي الـ14 بوصة الأسود والأبيض جانباً وكأنني أحلته للتقاعد، أخذني الجديد إلى فضاء أجمل، استمتاع بالصورة وانبهار بتحولات اللون.
ذات ليلة كنت مشغولاً بالرسم وفي نفس الوقت أستمع مع نصف مشاهدة لتليفزيون الكويت، وبعد انقضاء نشرة أخبار المساء، أطل المذيع “بسكبته الكويتية” تعلوه ابتسامة تملأ محياه، قائلاً: “أعزائي المشاهدين.. أسعد الله مساءكم بكل خير، سننتقل بكم إلى ملعب “لا روماريدا” في مدينة سرقسطة لنقل نهائي بطولة كأس ملك إسبانيا بين ريال مدريد وبرشلونة”، لم تسعني الفرحة، تركت رسم الوسائل التعليمية المدرسية جانباً وتابعت مجريات مباراة القمة بين الغريمين التقليديين.
ولأول مرة سأشاهد الفتى في مباراة كاملة ومباشرة مع فريقه برشلونة، انطلقت صافرة الحكم، تنقلات كروية بين الفريقين، واستعراضات فنية لمارادونا، تغيض الخصم بتشنجات متتالية تلاعبات مستمرة بقدميه ذات اليمين وذات الشمال، كلما انطلق ركضاً أعاقوه، والحال يتكرر مراراً، كسب عديد “الفاولات”، وإثر هجمة شبه مرتدة قادها الفتى الذهبي ومراوغة سريعة، جهز كرة على طبق من ذهب لزميله “فيكتور مانريكي” الذي لم يتوان فعاجلها في سقف المرمى، هدف أول للبرسا.
بعد مرور 32 دقيقة من حصة الشوط الأول والذي انتهى بهذه النتيجة، جاء الشوط الثاني واللعب سجال، وبمزيد من ضياع الفرص للاعبي البرسا وكذا مارادونا، حيث كان وجهاً لوجه أمام المرمى، فرصة لم تكن لتضيع، وفي الدقيقة 90 يأتي الهدف الثاني بتوقيع “الونسو”، توج البرسا ببطولة ملك إسبانيا 82 – 83 مع أول انتصار لمارادونا على الأراضي الإسبانية.
رقص واحتفال ولحظات تتويج، أسفرت عن وقوع كاتب السطور في غرام فريق برشلونة، كأول مشجع لهذا النادي بين الصحب الكرام، تشجيع بدأ منذ ذلك الوقت بفضل وجود الفتى الذهبي بين صفوف الفريق، أما الغريم ريال مدريد عرفته قبلاً، واحتفظ بأزمنته الجميلة التي مر بها، وعن أمجاد خاضها معهم أول لاعب أرجنتيني يلعب على الأراضي الإسبانية، إنه اللاعب الفذ “دي ستيفانو” أسطورة زمن الخمسينات والستينات، لكني لم أتعاطف مع انتصارات الملكي بسبب ارتباطه بالجنرال الفاشي “فرانشيسكو فرانكو” الذي جير جبروت السلطة من أجل فريقه المفضل، فالخسارة محرمة والحكام يرتجفون وصافرتهم في حوزة الملكي بنصر معلن سلفاً.
إرث “فرانكو” يدمي القلب وتقشعر له الأبدان، ودماء “لوركا” الشاعر الثائر في رقاب القتلة المأخوذين بناصية الجنرال تنفيذاً كوصية موقعة من يديه في ليلة ظلماء.
الفن والشعر دفعا الثمن باهظاً في الحرب الأهلية الإسبانية وحكم الأربعين عاماً ذاق فيها الشعب الويلات بأنهار من دم، والكرة تلونت برائحة القتل، وتلاقفتها أيدي الساسة على مسرح العبث، والمتلاعبون خلف الكواليس حاضرون في كل زمن.
لكن بأي حال سيعبر مارادونا جنون كرة القدم الإسبانية؟!