في أبجديتها الأخيرة، تتجه الروائية هدى العوى، في روايتها “يراني في الظلام”، إلى استخدام الأسلوب التوصيف، أيضًا تفعيل ثقافة الإرشاد الضمني، مع قليل من الوجهة الظاهرية، لتكون مفتاحًا إلى الوغول ضمنيًا، حيث إنها تُعالج بعض القضايا في لغتها عبر الحدث الدرامي، بكونها لم تغفل الجانب البصري فيها.
تتسربل بالأمل وفي ضمنها الإيجابية، حيث الرؤية الإيجابية، التي اختزلت جميع أحداث الرواية بين دفتيها، وما تُريد أن تقوله.
هنا، وفي الورقة الأخيرة، فإنها تُجيب عن سؤال المُتلقي، الذي مفاده: ما الذي تُريد أن تقوله الكاتبة من خلال الأسود في بياض قرطاسها؟
لم تكن الرواية كلاسيكية المحتوى، أو الحدث الدرامي، ولكنها أجادت الفكرة، والتعبير عنها من خلال التسلسل، الذي يجعلك، كقارئ لا تشعر بوجود مطبات هوائية، أو تعرجات في ذاتك، أو تتبع الحدث عقليًا، أو ثمة خلل في معالجتها ذهنيًا، في ذهنك.
احتضنت شيئًا ما، أرادته، أن يكون، بالرغم من أن المساحة المكانية، لم تكن واسعة الأفق، فالأمكنة محدودة، كذلك الجانب الزمني، بحيث أن الأحداث، لا تأخذ المُتلقي، لأن يُغربل الدقائق، ليكون حاضرًا فيها، ولكنه جاء، متوافقًا زمانيُا، مع القارئ، بحيث لو قرأت في أي وقت، فإنها، تناسب إنسان ذلك الوقت.
تطرقت إلى عدة أمور في الرواية، وفي آخرها، كانت الكاتبة أكثر تفاعلًا مع الحدث الدرامي، حتى أنها أصبحت تُقدم المفهوم من خلال ما يجب أن يكون، لتضرب بعرض الجدار بعض الأساليب المُتبعة اجتماعيًا، وأسريًا، وذلك من خلال الشخوص في الرواية، من خلال تفعيل الحالة الوصفية، المُطعمة بالرؤية الثاقبة إلى الأشياء، عبر تفاعلية الصراع.
نستعير بعض الكلمات، لنناقش هذه القضايا التي أوردتها الكاتبة -على سبيل المثال لا الحصر-:
أثارت موضوعًا حساسًا، جاء في موضوع الزواج، والتوافق بين الزوجين، روحيًا، وفكريًا، الذي يأتي ضمن القواطع المُشتركة بينهما، ورفض إلى بعض المُمارسات الزواجية، التي لا تهتم سوى بالزواج ذاته، بعيدًا عن هذا التوافق.
كتبت على لسان وسام الكفيف: فأنا أبحث عن زوجة تربطني بها علاقة وجدانية، وروحية، تفهمني وأفهمها، إنسانة، تختارني كما أنا، كإنسان لا يُبصر، ولكني غير معاق، وتتقبلني، ولا تنظر لي بنظرة الشفقة، وتشعرني بالنقص، أو الدونية.
وهنا، تُسلط الضوء على الكفيف، في تكون أسرة، كفرد من أفراد المجتمع، له الحق بالارتباط، بأن يكون له أولاد، ولكنها من خلال تجسيد معاناة الكفيف الظاهرية بصريًا، تضعنا أمام وعي، جسده هذا الكفيف، ليُعلمنا نحن المبُصرون، ما ينبغي أن نكون عليه من فكر، لنختار شريكة حياتنا.
لم تكتف فقد بتوجيه ذلك من خلاله، لكنها سخرت له أنثى، تتمتع بالجمال، والمركز الاجتماعي، والوظيفي المرموق، لتُغرم بهذا الفتى، غير المُبصر بعينيه، لكنه يمثل الإنسان، الذي يتمتع بروحية دافئة، ونظرة ثاقبة، وثقافة عالية، لتعشقه، في حين أن المُجتمع لن يتقبل هذا العشق، هذا الارتباط، وما يُدلل على ذلك، رأي والدتها.
تقول والدتها، حين أخبرتها سارة، بأن أمنيتها ستتحقق، وأنها سترتبط بوسام الكفيف: منذ سنوات، وأنا أنتظر يومًا أراكِ سعيدة، مع شخص مكافئ لك، كما كنتِ دائمًا تقولين، والآن تفكرين بالارتباط بشخص معاق بصريًا.
تُجيب سارة: إنني لم أعرف أحدًا مكافئًا لي غير وسام -الكفيف-، إننا متشابهان ومتقاربان بأفكارنا وأرواحنا، وهذا من أفضل أسس السعادة الزوجية.
وتختصر الكاتبة في آخر قرطاس روايتها، موقف الأب، الذي جاء، مُؤيدًا موقف ابنته سارة، ليبين أن ماهية الإعاقة، يقول: إن الإعاقة ليست فقط في الجسد، إنما الإعاقات الحقيقية، هي إعاقة أفكارنا وسلوكنا، المُغالطة نحو الآخرين، الذين يحتاجون إلى دعمنا لهم بالتشجيع، والتقدم والاندماج معنا بخوض مجالات الحياة..، لتكمل سارة: نعم يا أمي، الإعاقة الفكرية، واستصعاب الأمور، والعجز عن أي تقدم، هي الإعاقة الحقيقية.
وتابعت: لكن مثل وليد ووسام، يحتاجون فقط من المجتمع بعض الاهتمام، وإعطائهم الثقة، لصقل مواهبهم، واستثمارها في أهداف تنموية، يعم بنفعها المُجتمع، ونحن نكون من المُعاقين فكريًا، إذا لن نغير نظرتنا السلبية لهم، ونتعامل معهم بنظرة إيجابية.
ومن ضفة أخرى من الكلم، قد يظن البعض أن المُعالجة النفسية، تأتي دليلًا على الإصابة بالجنون، إن هذا الحكم ليس منطقيًا، حيث لا يؤيده العقل، ولا العلم، وعليه، فإن الإنسان، يحتاج إلى الكلمة الطيبة، إلى تفهمه، إلى الأخذ بيديه ناحية الضفة الأخرى من الشاطئ، حيث العُشب، ومرجوحة الأطفال.
وهذا ما أجادته الكاتبة في علاقة الدكتورة زينب، مع أم وسام، التي تُعاني من الخزف، وتفضل العزلة والصمت، وكيف استطاعت إخراجها من ظلمة حجرتها، وتقبل على الحياة، أن تبتعد عن حالة البؤس والحزن، الإحساس بالتقصير، وعدم الاهتمام بابنها وسام، مما جعله، يفقد البصر، إلى الاستمتاع بالحياة، الطبيعة وألوانها، بدلًا من ظلمة حجرتها، أن توجه بوصلة نظرها إلى ما يتمتع به وسام من رحابة صدر، من جمالية الروح، من إيمانه بوضعه، متوافقًا، ومتصالحًا، مع ذاته، وينبض قلبه بالعشق للأشياء.
ومن هنا، تشير الكاتبة، إلى أهمية أن يكون للإنسان نظرة أخرى، تبتعد عن النظرة الكلاسيكية، أن يقرأ في الحُزن، أبجدية النور، ويُبصر في ظلمة الذات، خيوط الشمس، فإن في كل حزن، ثمة شيء، أشبه ما يكون بالضوء، وإن كان خافتًا، يفتح الشرفة إلى دخول الأكثر من الضوء.
وفي نهاية هذه الإطلالة السريعة على رواية “يراني في الظلام”، للروائية هدى العوى، في حلقتنا الـ 3، والأخيرة، بكل تواضع، أهمس في أذني صُناع الدراما، ومن يعشق العدسة الدرامية: كلي أمنيات أن يُلتفت إلى هذه الرواية، ونظيراتها من الروايات والقصص، لأقلام من القطيف، وقراها، باتساع الأفق، فإنها مادة ثرية، إذا ما تناولت بصريًا، وكتب لها سيناريو، لتُقدم على الشاشة الفضية، فإننا بحاجة إلى ما يُثري ذائقتنا، ويُنمي من الحس الإنساني في ذواتنا، وأن يجعلنا ننظر إلى الحياة بكل تفاؤل، لنرسم لوحة جمالية، نعيشُها نحن، ونسكبها إلى الآخرين، لتكون، كالماء، يروي الظمآن. .