قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [سورة الفرقان: الآية ٣٠].
القرآن الكريم هو كلام الباري -عز وجل- وبه نهتدي من الظلمات إلى النور، ونحن المسلمون خير أمة أخرجت للناس، بل جعل هذه الأمة تبلغ ذروة القيم والفضائل والمجد، قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. [سورة إبراهيم الآية: ١].
مما لا ريب فيه أنّ تلاوة القرآن الكريم من أجلّ العبادات وأرفعها قدرًا عند الخالق تبارك وتعالى، وقد أمر الله -عز وجل- بتلاوته؛ فقال مخاطبًا نبيّه محمدًا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في سورة المزمل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}. [الآية: ٤].
إذًا القرآن الكريم هو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، ومع هذا كله لم يعطوه حقه ولم يقم به إلا من رحم ربي من المؤمنين، وإلا فقد هجره الكثير من العامة، هذا يعرض عنه ويهجره بعدم قراءته، وتارة بالإعراض عنه واللغو فيه، وكذلك بعدم اتباع أوامره واجتناب نواهيه وإلقائه جانباً، وترك التحاكم إليه، والبعض للأسف لا يتلوه إلا في شهر رمضان فقط، وبعدها يكسوه الغبار ويركن ويترك داخل الرفوف حتى رمضان القادم بل يوجد آخرون حتى في شهر الله لا يتدبرونه ولا تلامسه أطراف أصابعهم.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير، وبدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ويعود سبب ذلك لقلة الوازع الديني والانشغال بالمدخلات الحديثة على المجتمعات قاطبة مثل وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة ليتجه المجتمع بغالبيته نحو هجرانه، وعدم الالتفات لما فيه، وعدم التأثّر بوعده ووعيده، ناهيك عن رفع الأصوات عند سماعه وعدم الإصغاء إليه وقلة احترامه، بإكثار اللهو والحديث واللغو أثناء تلاوته. وترك العمل بما جاء به بعدم تطبيق أوامره واجتناب نواهيه؛ فالقرآن الكريم كتابٌ نزل حتى يكون منهج حياةٍ وتبيان طريق للمؤمن. فقد جاءت في القرآن الكريم جميع التشريعات اللازمة والمناسبة لحل الاختلافات بين الناس، وقد نهانا الله -عز وجل- عن الاحتكام لغيره، فهو شريعة المؤمن ومنهاجه في دينه ودنياه.
إن هجر القرآن الكريم يُورث في قلب هاجره القسوة والجفاء، لأن القرآن يرقق قلب قارئه، فبذكر الله -عز وجل- يأنس القلب ويُشرح الصدر وتطمئن النفوس، قال تعالى: {الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ}. [سورة الرعد الآية: ٢٨].
بالإضافة إلى أن هجر القرآن الكريم يُفقد صاحبه حفظ الله وحمايته له؛ حيث إن ذكر الله تعالى هو خير حافظٍ للمؤمن، وهاجر القرآن قد ضيّع الأجر والفضل العظيم من الله -عز وجل- وفوّت على نفسه شفاعة كتاب الله، وهجر القرآن يدفع إلى هجر القيم، وبالتالي يكثر الجهل ويقلّ العلم، ويكثر العمل وفقًا للأهواء الشخصية والشهوات؛ فتزيد الأخطاء والضلالات، وبتركه تذهب المبادئ السامية ويكثر الفسق والفساد والعياذ بالله ونصل لمرحلة يرثى لها من التدني السلوكي والأخلاقي. وبالبعد عنه نحلل ما حرم الله ونحرم ما حلله لنا وذلك اتباعًا لأهوائنا وميولنا وتلبية لرغباتنا الخاضعة لشيطان أفكارنا. ونتيجة لذلك نرى فئة ليست بالقليلة اتخذت لنفسها منهجًا خاصًا كل حسب ما تمليه عليه رغباته ونزواته وأصبحنا نعيش وكأننا بلا دين يحكمنا ولا دستور ينظم شؤون حياتنا وبلا وازع ديني يحمينا من هول مصيرنا المجهول.
إن القرآن الكريم لا يختلف على فضله وأهميته اثنان. وإن أتيته من كل النواحي تجد فيه صور العظمة والجلال، يكفيك أنّه كلام الله جلّ في عليائه، لذا فهو معين لا ينضب، ومورد عذب زلال لا يرتوي منه وارده، ومن اعتقد أنه كتاب تلاوة فقط فقد ظلم نفسه ظلمًا عظيمًا.
لكن وقبل الختام ماذا عسانا أن نقول هل أعددنا أنفسنا للسؤال يوم اللقاء المشهود الذي هو آت لا شك فيه؟ أختي المؤمنة ما هو جوابك وأنت بين الملكين في ذلك اللحد المظلم الموحش تسألين عن حشمتك وعفتك وحجابك وما اقترفتي في حق ذاتك من معاصٍ وذنوب. وكذلك أنت أخي المؤمن وأنا كذلك كيف سنقابل خالقنا وظهورنا مثقلة بالذنوب وكيف لنا أن نبرر ما اقترفناه في حق أنفسنا وقد بيّن القرآن الكريم لنا جميع السبل والأحكام وكل ما ينظم شؤون حياتنا وبيّن لنا بالحجة البالغة ما هو محرم علينا الإتيان به وكذلك كل ما أجازه من مباحات لجميع بني البشر والاستمتاع بجوازه. لذا بأي مبرر سنقابل الخالق جلت قدرته ونحن مغرقون بالمعاصي والذنوب وظلم أنفسنا بما تجاهلناه من نداءات دستورنا المقدس كتاب الله الحكيم. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. [سورة المنازعات الآيتان ٤٠-٤١].