ينبغي للإنسان أن يبحر في ذاته، ليكتشف ما تتمتع به من مهارة، أو موهبة، أو عشق ما، لينغرس فيه أكثر، يطور من أدواته، فإن الذات تختزل الكثير من الأسرار، وكل ذلك يعتمد على الإنسان، في كيفية التصالح مع ذاته، ليكون رفيقًا لها، تُؤنسه، ويؤنسها، يتوافقان معًا، يتصالحان معًا، كل منها، يحث الخطوات ناحية الآخر، لأكون أنا ذاتي، وذاتي تحملني إلى حيث العناق الطويل.
كتبت ذات يوم حوارًا صحفيًا، مع الفنان الفوتوغرافي العالمي محمد الشبيب، ومما أذهلني كثيرًا في الأمر حينه، بأنه عاشق متيم بالطبخ، ويمارسه، لكم، جاءت الدهشة في عيني، وما عانقه يراعي، من حيث أنه اشتهر في جانبه الفني، لأبصره عاشقًا للطبخ، الدهشة كثيرًا، نجدها في حياة صناع الإبداع، ومن ينسجه.
وعليه، فإن حياة الآخرين، الجزء غير البارز في شخصياتهم للعيان، يُدخلني أكثر في عالمهم، لنكتب على صفحة الذات، ما لي هذه الذات من أسرار الحُب، وتعدد المواهب، والسؤال الذي يطرح نفسه، مفاده: هل تُحدد المواهب له السر في كينونة الذات، أم أنه بمثابة الشيء العابر، قد يشد الخطوات إليه الإنسان، أم يجعله على قارعة الطريق، فلا يهتم به، أو يكتشفه، ويطوره؟
ومن شغف الفضول، نقول: إن الإنسان، هذا الكائن البشري، يحمل بين جنبيه، ومكونه الذاتي، الكثير من الأسرار، أبدعها الخالق “عز وجل”، حيث جاءت الآيات الكريمة، تدعو الإنسان إلى التفكر، ويُمعن التفكير في نفسه، وفي الكون، وفي المخلوقات، ومن قوله تعالى في هذا الجانب: “أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ۗ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ”.
إذًا، إن التفكر، حالة توافقية، مع الحالة الإنسانية، ونافذة، تُطل، ليكون هذا الإنسان في الاتجاه الصحيح، ليكتشف العالم من حوله، ويكتشف ما في ذاته، وهذه الكشفية، ألا وهي المعرفة، التي تُوصلنا إلى الإدراك، بأن نُدرك، وإذا أدركنا، وصلنا إلى ما نصبو إليه من المعرفة.
وعليه، ينبغي على الإنسان، أن يُفكر، ليكتشف ما يتمتع به من مهارات، أو مواهب، أو ملكات، تختزلها ذاته، لتكون توأم مسافاته في الحياة، ومن خلالها، يقوم بخدمة الإنسان والإنسانية، ويسعى إلى البناء بمختلف ألوانه.
قد يظن البعض أن تخصصه في هذا المجال، يجعله لا يفكر بأن يكتشف هواياته الأخرى، أو يمارسها، لذا لا يفتح نافذته، ليدخلها الضوء، وإن كان شفيفًا، في حين أن موهبة بسيطة، أو عشق ما، يُمارسه، لدقائق قليلة، قد يكون له فاعلية إيجابية، تجعله، يتقن عمله، أو مجاله، الذي تخصص فيه، لهذا دائمًا، نقول إن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة في حياة الإنسان، تجعله يتقن ما يريد القيام به.
ولا ضير بضرب مثال هنا، والذي مفاده: لتعيش الحُب في كل شيء، لا تكتم الحُب في قلبك، أكان لوالديك، أسرتك، الزملاء، الأصدقاء، قل، وعبر عن حبك بالكلمات، بالأساليب، بالتعامل، إن إظهار هذا الحُب، يخلق بيئة تحفيزية، لك أنت قبل الآخرين، الآن، عبر عن حُبك للآخرين، جرب، وسوف تشعر بالدفء، فقط جرب، لا أكثر.
دق هاتفي النقال، فجأة، من يا تُرى المتصل، ليقطع سيل الإلهام، إنه الأستاذ حسين كاظم، لقد تأخرت عن موعدنا، سأرد، وأخبره أني قادم، الآن.
وصلت مُتأخرًا، فقد كانت حبات المطر، تُعانق زجاج سيارتي، جلست بجانبه، أبصرته، يتأمل الغيمات الزرقاء، لم تكن لي رغبة بأن أبدأ الحديث معه، كلانا الصمت، كظل، يُظله.
خاطبني بصوته الهادئ، دون أن يبتسم هذه المرة، كعادته، وقال: أتعلم يا أيها القروي الجميل، أدرت طرفي يمينًا ويسارًا، فلم أجد بالقرب أحد، أيقنت بأنه يناديني باسم القروي الجميل، أحسست أن هذا الاسم قريب من ذاتي كثيرًا، لا أعلم، كأني أحببته، إنه يُكمل، وما زلت أصغي: إن كثيرًا من الزملاء الإعلاميين، يحرصون كل الحرص على الاستفادة من الوقت، سعيًا إلى متابعة ما يدور على الساحة من الأخبار، بالإضافة للأعمال المناطة، والمكلفة عليهم من مطبوعاتهم، ورغم الوقت، الذي عملنا فيه، لنكتب سطورنا الأولى في عالم الصحافة والإعلام، وبالتحديد عام 1400هـ، يُدرك الجميع مقدار الصعوبات التي كانت تعيشها صحافتنا المحلية من قلة الإمكانيات، والبساطة في التكنولوجيا مما يزيد العبء على الصحافي.
ما زلت أصغي بتأمل، لأعرف ما يرمي إليه.
ابتسمت بدفء، فأضاف: برغم هذه الظروف، والمعاناة، كانت لدي هوايات، ومهارات برزت فيها، بل تبوأت شغافها، لأقرأ ذاتي من زاوية أخرى، وأداعبها من نقطة في القلب، بعيدًا عن المألوف.
لم أكن أتوقع أن الإعلامي حسين كاظم، يمتلك هواية الخط العربي، لا ظاهره، يُخبر بذلك، ولم أسمعه ذات يوم، يتحدث عن الخط العربي، ولا أعلم، كأني تخيلته، حين قال عن موهبته هذه، بأني أبصر كتابته متعرجة، وليست على السطر، وفيها أخطاء جمالية، تُخالف قواعد وأساسيات الخط، وألوانه المختلفة، يبدو أن الخيال أخذني بعيدًا بلا منطق، إنه خيال سيئ.
يقول: أيها القروي الجميل، كنت أعمل في الصحف الحائطية من المرحلة الابتدائية، ومُشرفًا على مجموعة من الطلاب، حتى تطور الأداء، لأقوم بكتابة لوحات إلى المحلات الصغيرة، وصولًا إلى الكبيرة منها، وجاءت البداية بتركيب لوحة إلى محل دراجات في بلدة الجش، ودقائق عمري حينها، الثانية عشر ربيعًا، ولوحة إلى البنك العقاري.
ما زلت أصغي.
انتابه الصمت، كأنه أراد لي الحديث، وبدأت، مُخاطبًا إياه، كخطابه لي: أيها القروي الجميل، لكم أغبط عُشاق الخط العربي، أتعلم لما؟ أعتقد جازمًا أن عاشق الخط العربي، يعيش حالة جمالية خاصة، لذا، فإنه ينظر إلى كل الأشياء من حوله، من خلال بوصلته الجمالية، متموجًا، مع انحناءات الأبجدية، كأنه يقتطف زيتونة، ويتلمس خدي طفلة، محمرة الوجنتين.
حدقت مليًا في غيمة، لأجده يقول: الكشافة، كنت شغوفًا بها، وانتسبت لها من الصف الخامس الابتدائي، من الأشبال، إلى الكشافة المتوسطة، ثم الجوالة الثانوية، إلى كشافة رسل السلام، التي كنت فيها مسؤولًا عن اللجنة الإعلامية، لأحصل على قائد كشفي.
وأردف: كذلك، كنت مع الفرق في المسابقات الكشفية، نعمل، حتى حصلنا على جوائز عدة، منها: فوز فرقة مدرسة الأندلس في سيهات بمسابقة التفوق الكشفي، أيضًا حضور العديد من المناسبات والرحلات الكشفية، وإعداد صفحة كشفية في جريدة اليوم، التي لاقت تفاعلًا من القراء والمنتسبين للحركة الكشفية في مناطق المملكة، وليست الشرقية فقط.
وما زلت أصغي.
أعاد الصمت، مُجددًا، أراد أن يمنحني الأبجدية، لأقول: أيها القروي الجميل، ألا تشعر الآن، وأنت تستذكر تلك الأيام الماضية، بالأنس، والاستئناس، ألا تحن، لعرق جبينك حينها، أحاديثك، مع الآخرين، تكاتفكم، وتعاونكم، ولذة النجاح؟
لن أمنحك الوقت، لتجيب، سأجيب نيابة عنك: نعم، كُلي الأنس، كانت الدقائق في ما سبق، جميلة، لحد الجمال وأكثر، أن تسترجعها، وأنت تُغمض عينيك، لتعيشها بتفاصيلها، فإنها تمنح الدفء، تأخذني إلى الراحة، الأريحية، ابتسم فجأة، أقضب حاجبي حينًا، أشعر أن قلبي، يرتعش، كعصفور بللته قطرات المطر، ليغدو جميلًا، يا أيها القروي الجميل، اجعل من ذكرياتك شرفة، تأخذك، لأن تتنفس بياض المسك، وعبق العود.
أعادتني حبيبات المطر على خصلات شعري، لأصمت، فقال: لنذهب، فقد كنت سعيدًا برفقتك، هل ستأتي في الأسبوع القادم، لنتحدث، أجبته: نعم، سآتي، سأكون قريبًا.