الإمام الحسين عليه السلام سر من أسرار الله (جل شأنه)، وهو من عباده المخلصين ومن صفوة أوليائه الصالحين، أعطى ربه كل شيء فأعطاه الله كل شيء، أعطاه كل شيء في الدنيا والآخرة، لأنه شهيد والشهيد حي يرزق لا يموت، فما بالك إذا كان هذا الشهيد هو ريحانة رسوله المختار محمد (ص)، القائل فيه “حسين مني وأنا من حسين”، ورسول الله أول من بكاه حين ولادته، وذرف عليه تلك الدموع الطاهرة على خده الشريف، فتعجبت ابنته الصديقة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها، كما تعجب الجميع، فأخبرهم بما سوف يجري عليه وأنه شهيد هذه الأمة فبكاه الجميع مع رسول الله (ص).
لقد استمعتُ إلى محاضرة للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي رضوان الله عليه، وكان حديثه حول الإمام الحسين عليه السلام، وعن دوره الرسالي العظيم وعن شهادته المباركة، ومن ثم عرج بالحديث على شخصية الإمام الحسين (ع) وفضله ومكانته عند الله سبحانه وتعالى، وعند جده رسوله المصطفى (ص)، وفضل من يحيي ذكره الشريف، وما سوف ينزله من بركات السماء اللا محدودة على من يوفق إلى ذلك، وعلى من يبكيه ويندبه ليلاً ونهاراً.
وذكر سماحته -رحمه الله- في سياق المحاضرة؛ كيف كانت علاقة والده المرجع السيد مهدي الحسيني الشيرازي -رحمه الله- بالإمام الحسين (ع)، وكيف أنه ربى أسرته الكريمة على مودة وعشق الإمام الحسين عليه السلام، حيث وضع برنامجاً يومياً بعد الانتهاء من صلاة الفجر، حيث يبدأ بمجلس حسيني في منزلهم يحضره كل أفراد الأسرة، وكان والده هو من يتولى الصعود على المنبر وينعى الحسين (ع)، ويذكر -رحمه الله- ومنذ كنا صغاراً حتى اختاره العلي العظيم إلى جواره الكريم أثناء ما كان يتهيأ إلى الوضوء لأداء الصلاة، لم نترك هذه العادة المباركة حتى ورثناها منه وأورثناها أبناءنا، بل أوصانا جميعاً أن نبكي الحسين كل يوم.
الإمام الحسين عليه السلام ذكره بركة وخيره واسع في كل زمان ومكان، وأينما يحل ذكره الشريف كانت السحابة الحسينية تنزل بالبركة وبالخير الكثير من غير حساب، وهذا وعد من الله عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، وهو أصدق الواعدين والصادقين.
قبل أن تفرض الجائحة نفسها على العالم، وتلقي بظلالها على كل موارد الحياة، كانت مجالس أبي عبدالله الحسين تضيء قلوب المؤمنين أينما تحل تلك المجالس المباركة، حيث يشار لهذه المجالس المباركة بالمجالس الحسينية الأسبوعية، وتبدأ برامج هذه المجالس بعد انقضاء موسم شهري الأحزان محرم وصفر من كل عام.
فكانت المجتمعات الموالية تحرص على المشاركة والحضور لهذه المجالس الحسينية، التي تقام غالبها في منازلهم وفي وسط مجتمعاتهم، فكانت تعم بالخير والبركة، وبالمنافع الدينية والاجتماعية، من ذكر الله سبحانه وتعالى، والاستماع إلى ما يتلى من آيات مباركة من كتابه الحكيم، ومن التوجيه والإرشاد الديني والاجتماعي، إضافة إلى لقاء الأخوة المؤمنين بين بعضهم البعض، والاطمئنان على أحوالهم، وكل ذلك بفضل هذه المجالس الحسينية المباركة.
وبعدها تتوجه قلوب المؤمنين إلى كربلاء، وتذرف دموعهم على ما حل بالحسين وأهل بيته وأصحابه الأطهار (ع)، وهذه الدموع الطاهرة كانت تغسل معها كل شائبة من قلب كل مؤمن، فتعود القلوب إلى فطرتها طاهرة نقية زكية ببركة مجالس أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وكأنما هذه المجالس الحسينية التي تقام أسبوعية محطة روحية يتزود منها المؤمنون وينتظرونها بشغف وحرارة بالغة، لكي ينالوا من رحيقها المبارك ما يشبع أرواحهم ونفوسهم، وهذه المجلس كذلك هي تركة دينية ورّثها الآباء الصالحون لأبنائهم لكيلا يحرمون من فضلها وبركاتها ديناً ودنيا وآخرة.
فهل نسمح إلى الجائحة أن تلقي بظلالها على مجالس أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وتلغي تلك العادة المباركة، التي كان المؤمنون ينتظرونها كل أسبوع بحرارة حسينية، وهل نتركها تفرض نفسها على أرواحنا وقلوبنا، وتحرمنا من هطول هذه الرحمات الإلهية، ومن تلك البركات الحسينية، وهل ندعها تصمت تلك الأصوات الحسينية التي كانت تعبر عن مآذن حسينية، من تلك المنازل المباركة، فكانت تضيء تلك الأحياء بذكرى نور الحسين (ع)، فهل نعود وتعود تلك المجالس الحسينية المباركة باحترازاتها حتى يزيل الله هذه الغمة عن هذه الأمة؟
أظن الجواب في يد الأخوة المؤمنين والمؤمنات أصحاب هذه المجالس الحسينية الذين اختارهم الله أن يحملوا هذا الشعلة الحسينية على عاتقهم، وتحمل هذه المسؤولية الحسينية الخالدة، التي بدأ بإحياء سنتها نبي هذه الأمة رسول الله المصطفي محمد (ص) وأكمل المسيرة الأئمة الأطهار (ع)، وبعدهم تعقبها المؤمنون والموالون جيل بعد جيل.
في حين نشاهد وفي ظل هذه الجائحة، كل روافد الحياة تعود كما كانت عليه، إلا مجالس أبي عبدالله الحسين عليه السلام نجدها مقفلة أو فارغة أو حزينة من صمت روادها، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حين قال: فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا.
فلا تحرمونا رحمة الله، ولا تحرمونا أن نبكي حسيناً، فكيف لا نبكي ولا نندب على من بكته السماء وجميع الأنبياء من قبل ولادته المباركة، كيف لا نبكي حسينا؟!