نحن والطيور والأشكال

عَرِفَتْ الطيورُ المهاجرة جمالَ فصلِ الشتاء عندنا واعتداله، فهاهي تطير وتحلق من فوقِ رؤوسنا في أسراب، كلها متشابهة، ولا تُميز طيراً من آخر مع قربِ المسافة. الشكل الواحد والسلوك الواحد والجينات المتقاربة هو ما يجعل بعضَ الطيور جميلة ومتناسقة، فأين هذا من الإنسان؟!

هو الإنسان من يقول: الطيور على أشكالها تقع، وصاحب السعيد تسعد، وجاور السعيد تسعد وشارك الناجح تنجح؛ كلها نصائح بديعة تدعو إلى الاقتران والتجانس والتشابه وانتقاء الإنسان ذي الصنف الأرقى الذي يضيف للآخر نكهةً من التميز والإبداع.

فعلى عكس الطيور، يتعلم الإنسان من سلوكيات غيره الإيجابية ويستفيد منها، فليست السعادة كلها جينات فُطرنا وجُبلنا عليها، ثابتين لا نتزحزح، بل هي في مجملها سلوك نمارسه ونتعود عليه. فمن تعود البسمةَ للحياة اعتادها، ومن تعود التعاسةَ والشقاء سوف تكون حتماً جزءًا من يومياته.

يقال في الأمثال الغربية إن التعاسة تحب الصحبة، ولكن أحياناً الصحبة هي مَن تجلب التعاسة وتجلب اليأسَ والإحباط. حتى يكاد المرء أن يجزم أن السعادةَ بكاملها؛ الأربعة وعشرين قيراط، تكمن في الطيرانِ بعيداً عن سرب البشر الذين جلّ همهم التثبيط وإقلال العزائم والشحن الروحي والجسدي الناقص.

ولقد أثبتت الدراساتُ العلمية المطولة على مجموعاتٍ من البشر أن من وصل الثمانين وما بعدها من العمر في صحةٍ جيدة وذاكرة قوية، هو من كان في مقتبل عمره مرتبطاً بعلاقاتٍ اجتماعية مع أفراد سعداء، وليس من كان أكثر مالاً أو أوسع شهرة أو من ارتبط بالتعساء!

أنا كنت أظنه فقط مثلاً شعبياً تقوله أمي من خزينة أمثالها الغنية “جاور السعيد تسعد”، لكنني وبعد عشرات السنين وجدتُ أن كثيراً من الأصدقاء أضافوا سعادةً وبهجة لهذه السنوات أهم من أي شيء مادي آخر، أناس جيناتي اختلفت معهم ومظهري، إلا أنني استأنستُ بالطيران والتحليق في سربهم. وعلى العكس، أناس لم أحزن كثيراً حين افترقنا ولم نكمل الطريق، وكأنّ فراقهم يوم عيد!
إذا المرء لا يرعاكَ إلا تكلفا
فدعه ولا تُكثر عليه التأسفا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحةٌ
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا

فما كل من تهواه يهواكَ قلبه
ولا كل من صافيته لك قد صفا

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجيء تكلفا



error: المحتوي محمي