«لورا» والإبحار نحو المجهول

العملية التربوية ليست مؤطرة في قالب حجري، غير قابل للتغير، ويبقى التلاطم في أمواجها لا ينتهي -وإن بدا ساكنا- وهناك خيط رفيع يفصل بين ثقة الأبناء بما يقدمه الآباء من نصح وإرشاد ومنع وشد وجذب، وبين النفور من ذلك، واعتبار كل ما سبق يدخل في دائرة القسوة والتدخل في الخصوصيات وقمع الحريات والتسلط العائلي.

ويبدو أن انغماس هذا الجيل في عالم التكنولوجيا بما حوت من أوجه تفاعلية كثيرة، التي أصبحت ركنا أساسيا من أركان حياتهم، جعلنا في تيه وحيرة من الأمر، لذا يمكننا الجزم بأن العملية التربوية تحولت لمجموعة من الأذرع الأخطبوطية التي تأخذ بهذا الجيل نحو عالم من الارتقاء التربوي السلوكي بشكل تلقائي ودون رغبة اختيارية، سواء من الأبناء أو ذويهم.

لذلك نجد أن العملية التربوية لم تعد محصورة في ريادة الأم والأب كما السابق، بل يستقي الأبناء الكثير من المفاهيم المغلوطة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وغيرها من وسائل الانفتاح عبر الأثير، بطريقة تبدو وكأنها منهل نشط لترسيخ رؤية ضبابية متسمة بالتمرد عن المألوف، وضرب القيم وهدم العلاقات الأسرية، بتفتيت جدار الاحترام والتقدير للعائلة بشكل عام، حتى وصل الأمر بتبني تلك المشوشات واعتبارها سلاحا لبناء شخصية مستقلة ناجحة متحررة من قيود أسرية أو مجتمعية كما يظنون.

إنها النظرة المبتورة التي ترى جانبا دون آخر، وهذا طبيعي لأن ما قبل مرحلة النضج تكون السمة السائدة هي التهور والتسرع والنظرة الناقصة الخالية من الحكمة والبعيدة عن تحليل المعطيات لنتيجة ناصعة، لذلك الإرشاد العائلي أو القانون الرسمي لكل دولة كفيل بحماية بعض المتهورين من قراراتهم الخاوية من الإدراك الواعي.

لا يخفى أنه نشطت بعض الأقلام المحرضة، التي غذّت الكثيرين بأفكارٍ هادمةٍ للذات والمحيط الأسري والمجتمعي، لتخرج لنا شخصيات لا يعنيها البناء والتطور الذي يخدم المجتمع بشكل عام والدوائر الأضيق كالعوائل بشكل خاص، ولكن ما هو معلوم، أن خوض الأخطاء وغمار التمرد على القيم والمبادئ ما هو إلا مرحلة ستنتج الانكسار والشعور بنقص الذات عبر الأيام لمثل هؤلاء، لأن مسارهم قائم على ثورة داخلية مجردة من الوعي والإدراك والأسس المتينة للنهوض والتقدم.

إنه الجهل المقنع بجهل أكبر، ويبدو أن قصة البحارة «لورا» تصور لنا مشهدا لهذا التمرد، «لورا» هي أصغر بحارة قادت قاربها حول العالم بمفردها رغم المعارضة التي واجهتها على المستوى العائلي والرسمي، وكانت تبلغ من العمر 14 عاما، واجهت الهيجان والاعتراضات لمنع إبحارها وحيدة على متن قاربها، وكانت الوكالات الحكومية الهولندية صارمة في مواجهة عناد هذه الفتاة، التي بدت للجميع بأنها فتاة فقدت قدراتها في الإدراك وقراءة المخاطر المحتملة، لكنها وبعد 518 يوما، حققت حلمها ونجحت في أن تكون أصغر شخص يبحر على متن قارب حول العالم بمفرده، هل يستحق ذلك المجازفة وصعود المخاطر.

فيما أنّ الإبحار نحو المجهول، يعني المضي قدما نحو المخاطر وركل ما هو في طريق هذا المسار، لكنه قد يكلف الكثير، ومن المؤكد أنه في حال النجاة من ذلك المجهول، لا يعني انتهاج منهجية غير منطقية في اتخاذ القرارات، وكما يقول المثل الدارج: ليس في كل مرة تسلم الجرّة.


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي