أصبح المثقف الموسوعي والإعلامي المتميز محمد رضا نصرالله أيقونةً ثقافيةً حوارية أخَّاذة، من أي جهة نظرتَ إليه وجدته يملأ مكانه؛ فلا يمكن للضيف مهما عَلَتْ منزلتُه، أو بلغتْ شهرتُه، أن ينظر إلى برنامجٍ حواري مع محمد رضا نصرالله من علٍ. فهو يحاور ضيفه محاورةَ المحيط علمًا بإطروحاتِه، وهو صاحبِ رأي فيها؛ موافقةً أو مخالفة، ولا يكتفي بذلك بل يطرح ردود المخالفين على الضيف، بجرأةٍ ووضوح، مع الاحتفاظ بمكان الضيف من التكريم والاحترام؛ فيقدم الضيف بما يليق من الحفاوة، ويختم اللقاء بمثل ذلك، وبين التقديم والخاتمة يواجه الضيف، ويحاوره محاورة الـنِّـدِّ والعارف.
يُدْهشنا محمد رضا نصر الله كما يُدهش ضيوفَه بموسوعيته الثقافية، وقدرته على مجاراة الضيف في ميدانه؛ فيحاور الشعراء في الشعر، والروائيين في فنون السرد، والنقاد في آرائهم النقدية، والفلاسفة في أصول فلسفاتهم، والمفكرين في منطلقاتهم الفكرية، والتراثيين في مرجعياتهم التراثية، والحداثيين في رؤاهم الحداثوية. ومن حسن حظه وحظنا أنه أدرك أعلامًا وروادًا في هذه الميادين الإبداعية، والمعرفية وحاورهم.
استطاع محمد رضا نصر الله أن يبوءَ للثقافة والفكر منبرًا في التلفزيون السعودي في وقت مبكر، فَلَفتَ أنظار المشاهدين إلى قِيَمِ الحوار الثقافي، وعرَّفهم بأعلام الثقافة ليس في المملكة وحدها، بل في العالم العربي بأسره، عَبْرَ برنامجه الطلائعي ذائع الصيت: (كلمة تدق ساعة)، الذي بدأ بثه أواخر السبعينيات الميلادية. ثم تتابعت برامجه وتنوَّعت، واتسع نطاق مشاهدتها مع انتشار القنوات الفضائية منتصف التسعينيات الميلادية؛ فتابع المثقفون حواراته النوعية التي تجيب على العديد من تساؤلاتهم الفكرية والأدبية والفلسفية، وتثير لديهم تساؤلاتٍ أخرى، تدفعهم إلى التفكير فيها والبحث عن إجابات جديدة، فكانت تلك البرامج علاماتٍ فارقةً في القنوات التي بثتها، وقد حظي التلفزيون السعودي بتقديم عديدٍ منها لمشاهديه.
من تلك البرامج الحوارية التي اجترحها محمد رضا نصر الله في القنوات الفضائية إعدادًا وتقديمًا: (هذا هو، مع المشاهير، حوار الثقافة، وجهًا لوجه، هكذا تكلموا، من بين أيديهم، خارج الأقواس ، مواجهة مع العصر، وغيرها).
واللافت والمميز في حوارات الأستاذ محمد رضا نصرالله إخلاصها للثقافة والمعرفة، فلا تنساق للإيديولوجيات الفكرية، ولا ترتهن للأجندات السياسية، فكانت نسيجًا متماسكًا وجميلاً من المعرفة والفكر والثقافة والأدب.
وكثيرًا ما استوقفتْ أسئلته ومجادلاته ضيوفَه، فأشادوا بها، ولَفَتَهم عمقها وموضوعيتها، وهذا ما يكاد يتكرر في أكثر الحلقات التي شاهدتها، بل يتجاوز الأمر ذلك فنجد منهم من يعتذر عن الإجابة، لأن الإجابة تحتاج بحثًا واستقصاءً ومراجعةً، لا تستوعبها اللحظة؛ ونجد مفكرًا وفيلسوفًا بمستوى (مراد وهبة) يشيد بأسئلته مرات عديدة، ثم يصفها بقوله: «أسئلتك حادة»؛ ليس لأن محمد رضا نصر الله يتعمد إحراج ضيوفه، أو يستدرجهم إلى مضايق الكَلِم، وإنما لأن أسئلته تبحث عن إجابات موضوعية، ومقنعة، وليس من السهل تمرير الأجوبة المخاتلة عليه، فتَتَوَلَّد من تلك الإجابات أسئلةٌ تحفر أعمق في ذات الموضِعِ والموضوع.
هذه إلماحةٌ عن محمد رضا نصرالله؛ المثقف والمحاور الفَـذِّ، الذي تعدَّدت جوانبُ نشاطه الثقافي؛ فبدأ الكتابة الصحفية ولم يبلغ العشرين في أواخر الستينيات الميلادية، ثم ارتبط بالصحافة، كاتبًا ومحررًا، ومحاورًا، إضافةً إلى أن له في كل نشاط ثقافي مشاركة: فكان له دورٌ في تأسيس نادي الرياض الأدبي، ونادي الشرقية الأدبي، وكان مديرًا لتحرير ملحق الرياض الأسبوعي، ومشاركًا في التخطيط الثقافي لمهرجان التراث والثقافة(الجنادرية)، وأمينًا لملتقى المثقفين السعوديين، وأمينًا عامًا للهيئة الاستشارية للثقافة بوزارة الثقافة، ومشاركًا في رسم السياسات الثقافية والإعلامية؛ خلال عضويته بمجلس الشورى.
إن هذه السيرة الثقافية الثرية في بعدها الثقافي والإنساني والتاريخي جديرةٌ بأن تُكتَب؛ فهي مرتبطة ليس بالسيرة الشخصية وحدها بل مرتبطةً بالتحولات الثقافية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية؛ وستكون سيرة تؤرخ للفكر والثقافة والإعلام خلال نصف قرن، وذلك ما تعظمُ الحاجة إلى تدوينه وتقديمه إلى الأجيال
التالية. فمتى سنقرأ كل ذلك في السيرة الذاتية والثقافية للأستاذ محمد رضا نصر الله؟
إنه لمن الظلم ألا تحتوي رفوف مكتباتنا كتبًا من إمضاء هذا المثقف الكبير، تحفظ لنا وللأجيال حواراته الصحفية الماتعة، ومقالاته الثقافية الرائعة، وتجاربه الحياتية النافعة.
المصدر: مجلة اليمامة