تعليق على رواية «يراني في الظلام» للروائية هدى العوى.. «1»

أشاحت الروائية هدى العوى، في روايتها “يراني في الظلام”، بعض اللثام عبر المقدمة، التي جاءت، كإشارة ضمنية، تختلج الرؤية الأساسية، وذلك لما للحياة من طرق متعددة، وفاعلية الميول، الأفكار، في جانب المعرفة العقلية والخبرة، التي تبزغ من خلال استمرارية الدقائق في الحياة، فكلت تقدم العمر، تحدث التغيرات فيما ذكر آنفًا.

إنها تتخذ من ذوي الاحتياجات الخاصة، الفكرة الرئيسة، لهذه المسافات الترابية في دهاليز “يراني في الظلمة”.
يبدو واضحًا جدًا، أن الكاتبة، اتخذت من الأسلوب الوصفي، المعجون بالصور الجمالية، منطلقًا شرفتاه بلاغية الحضور، متزامنًا، مع الحالة الاستشعارية، التي تنبعث من الكاتبة، لتسقط في أحرفها، ويرتشفها القارئ، ونتيجة لكل هذا، فإنه بشكل لا إرادي، تتمكن الصورة البصرية، سواء كان واقعًا، يشعر به، أم تخيلًا في متابعة الحدث الدرامي، بل مراقبته.

إنها تجعل من الصورة الجمالية الناتجة عن التراكيب اللفظية، بهدف خلقها -الصورة الجمالية-، والتي جاءت بانسيابية، عفوية البوح، والبناء النسقي.

هنا، وقفة مهمة، قبل الوغول في الرواية، ينبغي الانتباه لها،  التي تكمن في الفعل الدرامي، بحيث إنه لا ينفك من يراعها، لتتمسك به، ليس قصدًا وعنوة، وإنما على أريحيته، فلا يتلبسك النفور، لتعقيد التركيب اللفظي، أو يبس المعنى.

وعليه فإن الروائي، إذا ما استطاع أن يجعل من توصيفه، عبر تراكيبه اللفظية، لخلق صور جمالية، تتمتع بالحياة، ليجعل القارئ، ينغرس فيها بديهيًا، وذلك لما تحتويه من ذبذبة شعورية، لا يبصرها، لكنه ثمل بها، فإن اللغة البلاغية، لها سحرها، الذي يجعل المعنى، يتراقص، مع رؤية الكاتب، والحالة التوقع، بفعالية نسبة الاحتمالات في المتلقي، إذًا، كانت النافذة صافية، لتحتضن الضوء القادم من الطبيعة، عبر الحديقة الغناء، التي جمعت سارة، المرحة، العاشقة لحبات المطر، وأخاها وليد، الذي كانت أمنياته، أن يمتلك سيارة، ولكنه قبل أن يرفع راسه، لأخته، ويبلغها بأمنية، كان ينظف قطرات الماء، التي خلفتها سارة في ساح منزلهم بسبب المطر الشديد، بعد أن كان مطرًا شفيفًا، جعلها تشعر بأنوثتها، وخصلات شعرها المتدلي..، يقال: إن الخارج من القلب، يدخل في القلب مباشرة، أراني أضيف عليها، وأقول: إن الصورة الجمالية، إذا ما بزغت من القلب، فإن القلب، يبصرها بكله، كواقع، يلمسه بذاته، وفكره، وأحاسيسه، ويتفاعل معها.
يا ترى، ماذا حدث بعد هذه الجولة في الطبيعة، بين سارة، وأخيها وليد، أيضًا رجوع الدكتورة زينب، وعلامات القلق، تعلو وجنتيها متذمرة، من يكون وراء ذلك؟

العنوسة والقسوة
تفاجئنا الكاتبة، منذ الوهلة الأولى بكل هذا التضاد، بالهوس والهاجس، الذي يأكل جسد الأنثى وروحها، إلا ما ندر منهن، اللاتي تقلدن الإيمان بالقضاء والقدر سبيلًا، الصراع جاء، كصدمة، دخول مباغت في العمق، تغذي فضول القارئ، في اكتشاف شخصيات روايتها، لتكون الأم، الحرف الأول من الأبجدية، قاسية، تكبت مشاعرها، هي الآمر الناهي، كأن بينها وبين الرومانسية، وإبراز عاطفتها سور الصين العظيم، تلك المسافة، وهذا الواقع المر.

سارة دكتورة الأسنان، التي تزوجت، بعيدًا عن رغبتها، بابن خالتها نزولًا لرغبة أمها، بلا توافق فكري، أو معنوي، أو العنوسة.

هنا، أرادت الكاتبة، أن تضعنا على مفترق طريق، بين الزواج نتيجة القسوة، أو العنوسة، لتعالج هاتين المشكلتين المعضلتين من خلال التفاعل النفسي، الذي يعبر من خلال الوعي اللفظي، المترجم للحالة العقلية.

الدكتورة زينب، التي يقلقها، أن تكون، كالبضاعة، تعرضها أمها على رفيقاتها، لتكون زوجة إلى أحدهم.

غربة وليد
الشاب وليد، الذي خرج للحياة، ليرى نفسه من ذوي الاحتياجات الخاصة-أصم وأبكم-، تخيط الكاتبة شخصيته، بكونه الإنسان، الذي يعاني من العزلة، الخاضع، لأمر الأم، يتلمس الأوجه بنظراته، ليعرف كنه ما تدليه الشفاه من حوله، وما توحيه قسمات الوجوه، يبتسم حينًا، ليعود إلى عالمه المخبوء تحت رداء الحزن، يكسوه لدرجة الدموع، أرادت الكاتبة، أن تسطر معاناة هذه الفئة، والتهميش الأسري، النابع من بعض أفراد الأسرة، المتمثل في الأم، ليعيش منعزلًا عن المجتمع، كأنه يسأل من أعماقه: ما الذنب، الذي اقترفته، لأكون منعزلًا، ألسنا، كفئة، لدينا الانتماء الاجتماعي، بأننا نعد مكونًا من مكونات المجتمع؟

هذا السؤال البارز، الذي تسبر أغواره الكاتبة، وتثيره من خلال الأثر، ونتائجه النفسية والعقلية، عبر هذا التعامل غير المنطقي.

إنها تستخدم أسلوب التضاد، بين تعامل الأم من جهة، حيث تتضح الأسباب، الناتجة بالقسوة، من خلال خوفها عليه، كذلك ما تعانيه من غربة العاطفة، والإحساس بوجود الزوج، البعيد، الذي تتمناه أن يكون قريبًا، لتصبح الأم والأب في تربية وليد، وبنتيها سارة وزينب، وتعامل بقية الأسرة من جهة أخرى، ليدور الصراع، وتشتعل الأحداث الدرامية، لتصل إلى ذروتها.

في الضفة الأخرى من المأساة، جاءت شخصية وسام، كفيف البصر، وحيد أمه، التي لديها “فوبيا”، من المستشفى واللباس الأبيض، للدكتورة، لتعيش العزلة، إلا من عطف وسام، وعناق يديه، وهمساته الحنونة، التي تظلها.

تأخذنا الكاتبة، من الحالة الأسرية، لتصفف حروف الأبجدية، وتعيد صياغتها في شكلها الأروع، إلى أن تضيق المسافة، وتجعلنا، نتوحد مع الأصم -وليد-، والكفيف -وسام-، ومن المصادفة بمكان، أو المركزية، أن تجعل من وليد، ووسام، شخصين، يتقنان الأعمال المنزلية، التي من المتعارف عليه أنها من شأن تاء التأنيث، وهذا إشارة إلى أن ذوي الاحتياجات الخاصة، لهم كفاءة في الشيء، الي يعشقونه، الذي يريدون إتقانه، ليتقنوه، أيضًا، استطاعت الكاتبة، أن تجعل المتلقي، ينغرس في الشخصيتين بكله، فقد أنعشتها الشخصيتان بما هي عايشته، لأعتقد جازمًا أنها، قطعت المسافات، لتدخل إلى عمق أنفسهم، تصغي إلى معاناتهم، وما يشعرونه، لتستطيع أن تترجم ذلك عبر الحدث، الصورة الجمالية، والإحساس، المتدفق من خلجات نبضها، لتسكبه على شخصياتها، ويرتشفه القارئ، كماء بارد في ظهيرة صحراء من الآهات، ليستريح عبر ظلالهم.

حقًا، تمتلك الكاتبة، ما من شأنه أن يجعل لكلماتها، تأثيرها على القارئ، لتصبح روايتها، كأنها فيلمًا سينمائيًا، أو مسلسلًا، أتقنه مخرج، قرأ ما خلف السطور، ليظهره إلى المشاهد، كأنه المشاهد، هو من يمارس الفعل الدرامي بذاته، وهذا الأمر قليل من يتقنه، فما أجمل أن تقدم الصدقة إلى الفقير، والأجمل منها، أن تقدمها، وشفتاك، تعانق مأساته بالدعاء إليه، وتمرير يديك بحنية على معصميه، وخديه، مع ابتسامة، تشبه ابتسامة الأمهات، ذات اشتياق.

أقول بأحرف لا تشبه إلا الذين، تدخل الكلمات وجدانهم، ليذرفوا دموعهم، أن رواية “يراني في الظلام”، هي درامة بصرية، أكثر من كونها على القرطاس، تجعلك، تبكي، لتعيش معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة، فتشعر بأنك تسكنهم، وهم يسكنون ذاتك!

كيف تناولت الكاتبة علاقة الدكتورة سارة، والكفيف وسام، وقلبه المبصر، ومعاناة العزلة لأمه؟



error: المحتوي محمي