أبصر المتنبئون، وصاح العرافون، وضج المنجمون، بأن خطباً جللاً سيكون، سيمحق حركة سكان المعمورة ويقض مضاجع القوم في كل مكان، هكذا صاح المتطيرون بالنجم وحركة الأنواء، زعموا منذ زمن، وارتفع توقعهم المشؤوم بحلول عامنا هذا، وعند مطلعه (2020) دقت أجراس الخطر فحلت لعنات الوباء، ضج الأنين والصراخ، وفقدت الحياة زخرفها، واكتست الأرض سواد أحزانها، وتفرق الجمع طرائق قدداً، وفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه، وعمت الكآبة وسادت الوحشة، ونذر الموت في كل حين.
صدق من صدق فيما بشر به المتنبئون من شؤم استفحل بكوارث حلت، راح نفر يشكك في أمرهم، هل كلهم يحملون النوايا التنبؤية الخالصة أم في الأمر غايات مستترة.
ثمة تقارير مسربة يتناقلها بعض الصحفيين المستقلين يشيرون عن مدى العلاقة الوطيدة بين أجهزة المخابرات العالمية بالنبوءات، بعضها تحدث عن إيمان حقيقي بالنبوءات والمتنبئين ودراسة ما جاء فيها، وتتحدث التقارير عن توظيف النبوءات وخلطها بالواقع المعاش للخروج بمحصلة يراد إيصالها للرأي العام، والبعض ذهب إلى أن كثيراً من المنجمين هم عملاء لأجهزة المخابرات.
تقول مديرة مجلة آخر ساعة الكاتبة “ثناء رستم” في أحد مواضيعها: “لم يكن “جون هوج” العراف الأمريكي الشهير سوى جندي مخلص حمل لقب مستشار في المخابرات الأمريكية” هذا العراف يحظى بشعبية داخل أمريكا وخارجها نظرا لتنبؤاته المثيرة للاهتمام، ولكن مع مرور الوقت بات ينظر لأقواله بعين الشك والريبة، وتبين بأن جزءاً كبيراً من ادعاءاته مجرد مطايا، ومثله كثيرون تم تجنيدهم لإطلاق تنبؤات مرسومة من خلف ستار.
هناك أشخاص يطلق عليهم فائقو التوقع أشبه بفريق عمل لدى وكالة التجسس، لديهم قدرة تنبؤية للأمور الغامضة، وتعمل أجهزة المخابرات بالاستفادة من قدراتهم الخارقة، ويوضع بحسبان النبوءات الدينية لما للدين من تأثير كبير في حياة البشر.
أحداث وأحداث افتعلت ليتم توافقها مع بعض النبوءات! وعندما يراد توطيد أمر ما في عقول الناس تطلق تنبؤات بحملات متعددة بدءاً من العرافين ومروراً بالأقلام وأفلام السينما ومسلسلات التلفزيون لتعبئة العواطف والتلاعب بالمشاعر، وانتهاء بنخب أهل العلم والفكر بتأكيداتهم، حول أخطار محدقة، يتمظهرون بإلقاء وصايا التحذيرات: احترسوا يا قوم مما هو قادم، بعد شهر، بعد سنة، سيحل شيء غامض في مكان ما، حرباً، غزواً، حصاراً، وباء فتاكاً، إلخ…
وإذا وقع الحدث العاصف المزلزل، تتناقل وسائل الإعلام ببهتان مريب: ها هي النبوءات اللعينة قد تحققت!
لعبة ترويجية لكثير من النبوءات نفثتها أبواق علمية رصينة وأخرى أدبية وضاربي الودع ودراما السينما، لدرجة تنتاب المراقب شك في كل ما يسمع ويقرأ ويرى.
إن مطبخ التنبؤ التجسسي يدرس سلوك البشر، عواطفهم، مشاعرهم ومدى ردات أفعالهم، مختبرات نفسية تدار مع أطباء ومتنبئين وعرافين بإطلاق تنبؤات مفصلة تفصيلاً وفق أجندة يحددون فيها زمان ومكان وقوع الأحداث، وإذا وقعت واقعة ما، ضجت الأصوات بصرخات المستسلم: “صدق المنجمون”!
كم هائل من التوقعات التنجيمية تزف مع قرب بداية كل عام، وبعض المنجمين يبالغون في تقديم تنبؤاتهم ويلفوها بهالة من الخوف والترقب مع موسيقى تحبس الأنفاس، وعندها يدور الجدل والتوجس، والهدف المضمر صرف أذهان الناس عن شيء ما، من باب الإلهاء بتنبؤ وقوع أحداث خطيرة، مثل صيحات نهاية العالم، حيث تنصرف العقول وتنشغل الأذهان بعيداً عن أحداث أكثر أهمية تدور وتحدث في البلاد.
ثمة تنبؤات تطلق مبكراً وبشكل متكرر وفي توقيت غريب من أجل ترسيخها في أذهان الدهماء، وإذا أتى الهجوم المفتعل ووقع الحدث المبرمج تنبرئ الأصوات المسرحية: “ما هذا الحدث إلا ترجمة فعلية لذلك التنبؤ الذي تم إطلاقه منذ زمن”، ويوهمون السواد الأعظم من الناس بأن هذا الأمر أصلاً واقع لا محالة ولا مفر لصده، فهو مصداق فعلي لنبوءة المنجمين لا راد لقضاء الخطب، ويسلم بالأمر تسليماً باعتباره حدثاً ضمن صروف الدهر وتقلبات الزمن.
مع بدايات الحرب العالمية الثانية استغلت ألمانيا نبوءات “نوسترادموس” بتفسيرها والتلاعب بها بما يتماشى مع أغراضها السياسية، فقد طبعت نسخاً معدلة من تلك النبوءات على شكل منشورات ألقتها بواسطة الطائرات على الأهالي في فرنسا وغيرها، لتوقع في النفوس الاستسلام بأن الهزيمة آتية لا شك فيها والنصر حليف الألمان!
وأمام هذا النصر الإعلامي النازي المترافق مع النصر الميداني لم تقف بريطانيا مكتوفة الأيدي، فقامت هي الأخرى بتحوير تلك النبوءات بما يتناسب مع أغراضها السياسية والحربية، وحين انتصرت بريطانيا وهزمت ألمانيا روجت بريطانيا وفرنسا لصدق نبوءات “نوسترادموس” المكتوبة قبل 500 عام! وهي على شكل رباعيات منظومة شعراً فكل قطعة هي رباعية شعرية استعمل فيها كاتبها لغة خاصة فريدة من نوعها، خليط من لغات قديمة “اللاتينية والإغريقية”، وهي تركيبات لغوية رمزية مفتوحة على جميع الدلالات والتأويلات وتفسر حسب الأهواء والأطماع، وتطوع وفق ما يشتهي السياسيون والانتهازيون، وغالبية من جاء بعد “نوسترادموس” من عرافين و منجمين تتلمذوا عليها واستفادوا من طريقتها، وهي المعنونة بـ “القرون” وتستغل بتحريفات وتأويلات حسب كل عصر وهمومه، ولم تزل رائجة إلى يومنا هذا.
لا وازع يؤنب ضمائر جوقة الأمبريالية المعتنقين أفكار الجمعيات السرية، افعل ما شئت لبلوغ الغاية، والوصول نحو الهدف وتحقيق المراد ولو بعد حين.
إن دهاقنة الغرب الماديين وما يخططون له من مكائد للبشريه لا يهمهم من سيلحقه الضرر وإلى أي مدى سيكون حتى لو أتى على حساب بني جلدتهم، المهم تنفيذ ما ينوون القيام به ضمن أجندة خفية، وفي كنه الجرم يمررون الوان من الرسائل للجماهير بأن ما ترونه قد توقعه المتنبئون منذ زمن.
ساد في نهاية القرن المنصرم عند بعض المفكرين الغربيين، مفهوم “النظريات السياسية القـدرية” التي راجت في ذلك الوقت مثل “نهاية التاريخ” و “صراع الحضارات”، أفكار ترسخ النظريات القدرية وهي أفكار ليبرالية بحتة، تشبه الحتميات الماركسية من حيث هي حتم وجبرية، لتوهم البشر بأنهم يسيرون في الاتجاه الذي يرسخ نهاية التاريخ، إيهام جمعي للقبض على مسار الأحداث وتوجيه التاريخ نحو الوجهة التي يريدونها، وهل صحيح “ليس للتاريخ ليبرتو”، أي ليس هناك إيقاع يضبط حركة مسار التاريخ، فهناك دائماً مفاجآت تأخذ البشر إلى حيث لا يحتسبون.
يبـدو الأمر سيان لأن المتلاعبين بالعقول شغلهم الشاغل التمرجح على جميع الحبائل مثل لاعـبي السيرك يتراقصون أينما شاؤوا وكيفما أرادوا، لوجهة يرتضونها لمصلحة طويلة الأمد تتجدد لسنين وعقود قادمة، وهذا ما يدفع العديد من المثقفين إلى القول: “إن أمريكا تقدم في السينما ما تنوي فعله بعد عشرين عاماً، وتفرض هيمنتها على ثقافة العالم من خلال خطط إنتاجية سينمائية بالغة الدقة والتعقيد”.
ولنا أن نتساءل عن أفلام وكتب تنبأت منذ سنوات لأحداث نعيشها اليوم بأدق تفاصيلها، حتى تبرأت الصدفة مما يقال، هل كل ما يحدث نتيجة الصدف أم بفعل أيدٍ تضمر الشر، ومن أين يستمد المتنبئون تشدقهم بما سيحدث غداً وبعد غد؟
سيل من الأفلام أطلقوا عليها دراما الخيال العلمي، وإذا بالخيال يترجموه لكوارث تهدد جماعات مغلوبة على أمرها وتفاجئ البلدان المعاندة على حين غرة، ويتلبس كل ما جرى بسفر التنبؤات الدينية، لأن المدبرين يطبقون تعاليم أورشليم.
تقول “جريس هالس” الكاتبة الأمريكية، صاحبة كتابي “إجبار يد الله” و”النبوءة والسياسة” بأن “النخب الأمريكية مؤمنة أشد ما يكون الإيمان بالنبوءات الإسرائيلية”.
معتقدات راسخة في ذهنية النيوبراليين المتشبثين بمورثات توراتية عتيقة، يسيرون بها قدماً كهوية وانتماء، وأيديهم دائماً على الزناد يرسمون بها (الجيوبوليتيك) بلا حدود، إذاً لا غرابة لما تتخرصه تلك النبوءات من عجائب وأحداث الزمان.
أيتها الدهشة هل صحيح بأننا عاجزون في هذا العصر عن فهم كل ما يجري!