وَمَا أدْراكَ ما خِدْمَة أهل البيت(ع)

في أربعين الفقيد السعيد أبي سراج عمّار القريش -رحمه الله-

بقَدْرِ الذهول والحرقة والآلام التي أحدثها رحيل المرحوم المبرور أبي سراج فإنَّ هناك قَدَراً كبيراً من الاطمئنان إلى خاتمته المُشَرِّفة. فقد رَحَل الفقيد السعيد في يوم الحُسين (ع) في ظُهر يوم العاشر من محرّم الحرام، ليلتحق بركبِ الحُسين (ع) وأصحابه – رضوان الله عليهم.

كلّنا ندرك حقيقةَ الموت ونستشعر وَقْعَه الصعب على نفوسنا، ولكنَّ الأصعبَ أن يختطفَ الموتُ عزيزاً لنا فجأةً ودون مقدمات.

من العَظمة بمكان أن يتصرّم عُمْرُ الإنسان وقد تركَ وراءَه صدًى طيبًا وذكرياتٍ جميلة في نفوس أهله وأصدقائه وإخوانه وأحبته. فتبقى صورته شاخصةً ويبقى ذِكْرُهُ خالدًا.
(فالذِّكرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثانٍ).

من السهلِ أن أكتبَ عن شخصيةٍ تعرّفتُ عليها من خلال يومياتِ الحياةِ. لكن من الصعب أن أكتبَ عن شخصيةٍ عاشتْ في دمائنا، وسكنتْ في صميم قلوبنا.

عجباً لموتٍ استطاع أن يختطفكَ مِنَّا! كيف لهذا الموت أن يسلب مِنَّا عزيزًا حبيبًا غاليًا.
فقد قَبِل هذا الموتُ أن تُوارى جثة فقيدنا الغالي في الأرض ويُهال عليها التراب.
جُثّةٌ طالما خدمت أهل البيت (ع)، جثة يَشَعّ منها نورُ الولاية والإيمان.

موقفُ الدفن للغالي الحبيب أبي سراج من أصعب ما أبكانا، ومما زاد من لوعتنا قِلّة المشيّعين لهذا العزيز الغالي.

عزاؤنا الوحيد أننا في حكومة الله التي من أوليّات قوانينها أنّ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.. وأنّ الفقيد السعيد تشرّف باللحوق بركب سيد الشهداء (ع)، في يومِهِ الخالد مع أصحابه الكرام.

هنا نقف صابرين محتسبين لقضاء الله وقدره..
ونقول.. هَوّنَ ما نزل بنا أنَّه بعين الله.

أراكَ يا أبا سراج في كلّ مكان، وفي كلّ ركنٍ وزاوية، وفي كلّ مسجد وحسينية، وفي كلّ مئذنةٍ كانت تصدح بصوتك الشجي والمتميّز بالأذان.

أراك يا أبا سراج في أعمالك الخالدة وأخلاقك الجميلة وابتسامتك التي تفتحُ النفس وتبهج الخاطر.

أراكَ يا أبا سراج في عيون المشهديّين الذين تَقَرّحتْ عيونُهم بالبكاء عليك. وقد أقاموا لك مجلسَ عزاءٍ حضوري في بيت جارك الذي أبى إلا إقامة مجلس حسيني على روحك الطاهرة، فحضر المجلس أغلبُ المشهديين الذين أحبوك وعاشوا معك أجمل سنوات عمرهم بجوار الإمام الرؤوف شمس الشموس(ع).

هنا يحقُّ لي القول: من أجمل ملامح حياة الفقيد السعيد أبي سراج مجاورتُه للإمام الرضا (ع) في مشهد المقدسة.. فقد انعكست تلك الجِيرة على شخصية فقيدنا الغالي في تعميق الولاء وشحذ الهمّة وتجليات التوفيق الإلهي الذي لازمه حتى آخر لحظة من حياته..

أبو سراج يتمتع بروح جميلة شفافة رائعة، لم يمنعه الاختلاف من الالتقاء والتعاون.. كان ضميرًا حيًّا حقيقيًا..

لا نستطيع في هذه العجالة -نحنُ الذين عاشرناه وعشنا معه- أن نفيَ أبا سراج حقَّه، فقد رأينا أخلاقَه وإيمانَه وعميقَ ولائِه.

أسّس أبو سراج فرقة الرسول الأعظم (ص) للإنشاد في مطلع الثمانينات الميلادية، كنتُ أحد أعضاء تلك الفرقة الإنشادية.. وقد ربّى في نفوسنا من الأشبال والشباب روحَ الولاء وحسّ المسؤولية وخِدمة أهل البيت (ع).. وذلك بامتلاك أبي سراج قدراتٍ خاصة ومواهبَ فذَّة في جماليات الصوت والأداء فضلاً عن أخلاقِهِ الرفيعة وابتسامتِهِ الساحرة.

كان يتمتع أبو سراج بنَفْسٍ مؤمنةٍ كبيرةٍ حنونةٍ تسعد بخدمة الناس وتسعى لنشر الفضيلة في المجتمع.

في فرقة الرسول الأعظم (ص) لم يكن أبو سراج ملقنًا ومشرفًا ومعلمًا لنا في أداء الإنشاد والأدوار، بل كان مُرَبيًا ومُؤدبًا ومُهذبًا. ولذا ليس غريبًا أن يتخرّج من هذه الفرقة الإنشادية رجلُ الدِّين، والرادود، والمُنشد، والمُقَدِّم للاحتفالات.

أبو سراج كان رادودًا مبدعًا لا تحدّه قيود. كان سلاحُه صوته الشجي. ذلك الصوت الذي يأخذك في رحاب حبّ أهل البيت (ع) وتعميق الولاء.
كان هذا الصوت الولائي الجميل العذب حتى آخر حياة أبي سراج يأبى أن يتقاعد أو يستريح، بل كان صوتُه يزدادُ على كِبَر العُمْرِ ومُضي السنين نضارةً وحلاوةً وشجاوة.

هذا الصوت الشجي الجميل يستطيع بقدرة عجيبة أن يأخذك إلى فضاءات رَحبة واسعة تُحَلّق بها عاليًا. ويستطيع هذا الصوت أيضاً أن يستدرَّ دموعَك في مصائب أهل البيت (ع). ذلك أن هذا الصوت ينبع نَفْسٍ مؤمنةٍ طاهرةٍ ورُوحٍ ولائيةٍ كبيرة.

كان أبو سراج حريصًا على التميّز والتجديد، فلم يكن يرتجل أنشطتهَ ومُشاركاتِهِ، فقد كان يختارُ القصائدَ والكلماتِ بعنايةٍ فائقة.
ولذا بقيت أعمالُه خالدةً منقوشةً في أعماق الناس وفي ذاكرتهم.
وبقي صوتُ أبي سراج يُدَوّي في كل الأرجاء. وقد تشرّفَ هذا الصوت الولائي أن يصدح بالأذان من العتبة الحسينية المقدّسة.

أبو سراج أيقونةُ حُبٍّ وعطاءٍ وولاء. يجب أن نُعَلّمَهُ لأجيالنا وللأجيال القادمة من بعدنا؛ وذلك بحفظ تراثه وجَمِع أعماله وتخليد ذِكراه.
فقد كانتْ لأبي سراج بصمة ولائية تستعصي على النسيان.

أبو سراج في العلاقات الإخوانية كان متفوقاً بامتياز. فكثيرون من إخوانه وأصدقائه وزملائه يعتبرونه مُفَضّلاً عندهم، بل يعتبرونه من أغلى وأعزّ الإخوان والأصدقاء. وهذه في نظري من أروع نجاحاتِ أبي سراج.
رَافَقْتُه في العديد من المشاركات الدينية والاجتماعية، وكنا في كثير من الأحيان نذهب للمشاركة سويًا، مرةً بسيارتي وأخرى بسيارته، أنا في الحفل مُقَدّم وهو في الحفل رادود ومنشد. كان المشوار مع أبي سراج حياةٌ ومرحٌ وولاء.

كان أبو سراج مبدعًا في الأخلاق وأستاذًا في العطاء ومتميزًا في الولاء. فقد كان أبو سراج عنصرًا موحدًا وأيقونةً جاذبةً في وسط التصنيفات الاجتماعية، وكان رقمًا عملاقًا في عالَم الصوت والدعاء والزيارة والأهازيج والأناشيد، وله أذانٌ فريد بمذاقٍ خاص.

في اعتقادي الجازم أنَّ جيلَنا -ونحنُ من جيل الصحوة- حظينا بشخصية رائعة مثالية تجسدتْ أنموذجًا حيًّا أمام نواظرنا. هذه الشخصية الولائية المحبوبة كانت تعطي وتمنح وتسجّل محطاتٍ في نفوس الجيل الذي عايشَه، وامتدَّ هذا العطاء لأكثر من أربعة عقودٍ.

لقد تَفَوَّق أبو سراج تفوّقًا بامتيازٍ مرتين.
مرةً حين استطاع بأخلاقه الجميلة وإنجازاته المتميّزة في أعماق الناس وفي وجدانهم.
والمرّة الثانية التي تَفَوَّقَ فيها بجدارةٍ أيضًا، حين خَتَم اللهُ حياتَهُ في يوم الحسين (ع)، لأنه خَدَمَ الإمامَ الحُسين وأئمةَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) منذُ نعومة أظفاره.
لأنه كان على يقينٍ بأنَّ الإمامَ الحسينَ (ع) لا يبخس شوقَ مَن اشتاقَ إليه.



error: المحتوي محمي