هما بنتان عاشتا في زمن لم تُخلق بعد فيه الوسائط التي تبث المقاطعَ المصورة وأصوات الغنج والدلال، وكأنتا أرقى من الدفع بنفسيهما في أماكنِ الشبهات، وسوء السيرة. كان في زمانهما رجال وكان واحد من الرجال فيه شهامة وقوة وحياء وجمال، لكن البنتين من المؤكد لم تكونا في وارد القرب المشبوه وإن في لينِ القول!
في أيامنا هذه يقترب الناس من مذمة الحياء ويعظمون الجرأة، فلربما ابتعدوا عن مصاحبة المرأة الخجولة وعن مصاحبة الشاب الحيي المحتشم! فمن المستحيل لو كانتا بنتا شعيب (ع) اليوم من الأحياء ورأتا ما يصوره ويبثه “بعض” الشباب من النساء والرجال ويكشفون عن أنفسهم في صورٍ وكلماتٍ وأفعال – لا تليق بهم في المستقبل – أن تستسيغاها أو تقبلاها. صور وأصوات اليوم تبقى أبد الدهر فلا تمحى وإن رغب أصحابها محوها من الوجود.
ابنتان كانتا لشعيب النبي (ع) رآهما موسى (ع) هاربًا من أرض مصر وارم القدمين من المشي حافيًا ليس له من القوت سوى نبات الأرض وأوراق الشجر، التقاهما قرب ماءِ مدين تمنعان أغنامهما من ورود الماء والشرب منه لكي لا تقتربان من الرجال الغلاظ. أثار منظرهما موسى (ع) القوي الغيور فسألهما: ما خطبكما؟ وما حاجتكما؟ فأجابتاه: لا نسقي حتى ينتهي الرعاة من السقي ولا تسأل عن أبينا فهو شيخ كبير ينتظر عودتنا للبيت.
اشتعلت حمية وكرامة موسى (ع) فاستسقى لهما وبعد ذلك راح يستظل تحت أشجارٍ قرب الماء. عادت البنتان إلى أبيهما ونصحتاه أن يستأجر موسى (ْع) القويَّ الأمين. وعلى أثرها عادت إحداهما إلى موسى (ع) وكأنها تمشي فوق بساطٍ ممتد من الحياء، لا تركض ولا تحجل ولا تهتز ولا تتمايل، بل على استحياء. ودون مقدمات من كلمات إعجاب أو إطراء أو تحية قالت لموسى (ع) كلماتٍ معدودات: “إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا”، لا أكثر ولا أقل! ثم كان من بقية القصة ما نقرأ نحن المسلمون في سورة القصص من القرآن الكريم.
وماذا عن موسى (ع)، الشاب القوي؟ تقول السير بأن الهواء حرك ثيابَ البنت لما مشت قدامه، فطلب منها موسى (ع) أن تمشي خلفه ويمشي أمامها. فهل بقي في الشباب هذا النوع من الحياء اليوم؟ وبالمناسبة كان النبي محمد (ص) كثير الحياء بحسب وصف أصحابه له حيث قال أحدهم: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياءً من العذراءِ في خدرها وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه”.