الشباب والعالم الافتراضي: وعيٌ أم سقوط

خلق الله تعالى النفس البشرية وأودع فيها مجموعة كبيرة من الغرائز التي بذاتها تدفع الإنسان نحو إشباعها؛ وفي ذات الوقت منح الإنسان الحواس ليُدرك بها العالم الخارجي، والعقل ليُميّز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، يقول (ص): ((استرشدوا العقل ترشدوا))؛ والقلب ليكون إماماً للنفس وضماناً لها من السقوط حين يكون سليماً من الأمراض التي قد تلوّثه، يقول (ص): ((استفت قلبك)).

وفي ذات الوقت ومن خلال القرآن الكريم وعبر الأنبياء والأئمة، أوضح الله تعالى الطريق السليم لإشباع تلك الغرائز، وما على الإنسان سوى أن يسلك النهج السليم لتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة.

والملفت للانتباه أن معظم تلك الغرائز تستيقظ دفعةً واحدة في مرحلة الشباب، وهذا ما يجعل هذه المرحلة أكثر خطورة وأكثر حرجاً على الشباب.

ومن جملة تلك الغرائز المتأججة:
● إثبات الذات، لدرجة أن البعض قد يعيش حالة التمرّد على محيطه الأسري، وقد يتجاوزه للتمرد على المحيط الاجتماعي، فقط ليقول أنا موجود، ولو كان ذلك على حساب القيم أو الإخلال بالأمن أو تجاوز العرف الاجتماعي.

● التطلع للثراء، فلا أحد ينكر حبّه للمال، وفي مرحلة الشباب يكون حب المال له معنى مختلف لأنه يعطي للشاب معنى الاستقلالية والتي من شأنها أن تعزز إثبات الشاب لوجوده.

● الميل للجنس الآخر، حيث من الطبيعي أن يميل الشاب للفتاة وأن تميل الفتاة للشاب.

وفي وقتنا المعاصر وحيث الفضاء الإلكتروني والعالم الافتراضي الذي فرض نفسه كواقعٍ لا مناص منه، والذي تُثار من خلاله كلّ الغرائز المتأججة في النفس البشرية، وهنا يأتي دور الوعي في حماية الشباب من أثر السقوط، وحيث إن جميع تلك الرغبات والتطلعات تكون موضع إثارة وتحريض من مختلف الجهات التي باتت تمنهج مثل هذه الأجواء، وقد وجدت في الشباب أفضل فريسة حيث الهيجان المتحقق في أعماق نفوسهم.

وبدايةً نؤكد أن من حق الشباب أن يتطلع لكل تلك الرغبات، فإثبات الذات والثراء والميل للجنس الآخر حقٌ مشروع لكلّ الشباب والفتيات، إلا أن السؤال المهم والذي ينبغي أن يكون نصب عين كل شاب: ما هو الطريق السليم لتحقيق ذلك؟

ولو تأمل الشباب والفتيات قليلاً في طبيعة هذا العالم الافتراضي لوجدوا بوضوح أنه يصور لهم واقعاً مثالياً كما يجول في خواطرهم؛ فطريق الشهرة وسبيل الثراء والوصول للمعشوق يتمثل لهم تماماً كما قد يبدو لهم في أذهانهم، وذلك يجعلهم فريسةً سهلة.

مع ملاحظة أن الواقع المثالي الذي تتصوره أنت ليس بالضرورة هو تماماً كما يتصوره غيرك.

فعلى سبيل المثال العلاقات الإنسانية في فضاء العالم الافتراضي، والتي تشغل حيزاً كبيراً لدى الشباب على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يتخيلها الشاب أو الفتاة وكأنها الحلم الجميل الذي يبحث عنه، فحين يتواصل شاب مع فتاة عبر تلك الوسائل فإن كلاً منهما يصوّر الآخر بالنموذج المثالي الذي في ذهنه، وليس بالضرورة أن يكون الواقع كما تتصوره في ذهنك، وقس على ذلك جميع التطلعات والرغبات.

ومن هنا ينبغي أن يتحصن الشباب والفتيات بالوعي الذي من شأنه أن يحميهم من خطر السقوط.

وأهم ما ينبغي أن يكون حاضراً في الذهن هو وضوح الرؤية والهدف من كلّ سلوك يمارسه الشباب والفتيات وسط هذا العالم الافتراضي؛ فإثبات الذات، والتطلع للثراء، والميل للجنس الآخر أمرٌ فطري جُبلت عليه النفوس، إلا أن هناك ضوابط شرعية ينبغي الالتزام بها لتحقيق كل ذلك.

وإذا علمنا أن لكلّ منّا نقطة ضعف تجاه تلك التطلعات؛ فالبعض تتمثل نقطة الضعف لديه في حب الظهور وإثبات الذات، والبعض الآخر في التطلع للثراء، والبعض في الميل للجنس الآخر، وهنا ينبغي أن يلتفت الإنسان لنقطة الضعف لديه لأنها ستكون محط الامتحان الإلهي وعليه أن يتجاوز ذلك الامتحان بالتسلح بالوعي، وبالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والتوسل بأهل بيت النبي الأعظم (ص)، وبذلك فقط ينجو الشباب والفتيات في خطر السقوط.

ولنا في كربلاء أفضل نموذج للشباب الواعي؛ ففي مسيرة سيد الشهداء (ع) إلى كربلاء هوّمت عيناه قليلاً، فانتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان ابنه علي الأكبر (ع) إلى جانبه، فقال: مالك استرجعت يا أبتاه؟ فقال الإمام الحسين (ع): سمعت هاتفاً يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير خلفهم، فقال علي الأكبر (ع): أو لسنا على الحق؟ فقال الإمام الحسين (ع): إي والذي إليه مصير العباد، فقال علي الأكبر (ع): إذا لا نبالي وقعنا على الموت، أم وقع الموت علينا.

وفي ليلة العاشر من المحرم اجتمع الإمام الحسين (ع) بأهل بيته وأصحابه وأخبرهم بأنهم جميعاً سيقتلون في الغد، وبشّرهم بمواقعهم في الجنة.

وكان في طرف الخيمة غلام لم يبلغ الحُلم، وهو القاسم بن الحسن (ع)، انتصب واقفاً وقال: وأنا فيمن يقتل يا عم؟ فقال له الإمام الحسين (ع): كيف ترى طعم الموت عندي يا بني؟ فقال القاسم (ع): في سبيلك يا عم أحلى من العسل، فبشّره الإمام الحسين (ع) بالشهادة.

هكذا نجد أن الشباب حين يتسلح بالوعي والبصيرة يكون هدفه نحو الكمال، وتكون رؤيته في سبيل تحقيق الخلود، ونيل الكرامة الإلهية؛ وتجده أيضاً ينأى بنفسه عن تلك الرغبات والغايات الزائفة التي لا تتجاوز لذتها اللحظات التي يعيشها الإنسان، فإن كانت في طريق الحق فقد انتهت لحظة أن حصلت، وإن كانت في طريق الباطل فقد خلفت تبعاتٌ لا تنتهي في الدنيا والآخرة.

اللهم اجعلنا ممن تسلّح بالوعي، وأنعمت عليه بالبصيرة في الدين كما كان أصحاب الإمام الحسين (ع) وأهل بيته الذين استأنسوا بالموت بين يدي سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع)، واجعل لنا يا رب زيارة عاجلة لمقامه المقدّس إنك على كلّ شيء قدير.


error: المحتوي محمي