يقول أحد شعراء القطيف المعاصرين:
وأجدلُ الرملَ خلخالاً لصاحبتي
أضمهُ ذهباً .. أصطاده حببا
ألفُ منه سوارٌ حول معصمها
أرشُ منه على “نفنوفها” قصبا
عندما استعرض الدكتور غازي القصيبي “رحمه الله” هذين البيتين، ونتفاً شعرية تعج بالجمال، وتضج بالصور الرومانسية المنتشية روعةً ورقة، وجعلها بسملة لكتابه “الخليج يتحدث شعرًا ونثرًا” المطبوع فيَّ بيروت الجريحة عام ٢٠٠٣م.
كان يطرح على قارئهِ سؤالاً بعد كل مقطع يختاره من شعر هذا الفارس المتألق فيسأله.. من الذي قال:
يا جارة الشطآن يا جارتي
روحي لهذا المترف البضِ
لا تقع العينُ على مثله
إلا على شاطئنا الفضي
صفو الينابيع، وصحو المدى
وعنفوان السوسن الفضي
ثم يستعرض أسماء أشهر شعراء الرومانسية العرب كنزار وعمر أبو ريشة وعبد الله البردوني، وبدوي الجبل، وسعيد عقل.
ويضع تحت كل مقطع اسم أحدهم، ويجيب نافياً أن يكون ذلك لأحدهم، فتزداد حيرة القارئ ويتمنى أن يقفز فوق أسوار المقالة ويتخطى كل الحواجز ليتعرف إلى هذا الشاعر الفذ الذي ألهب خيال ووجدان شاعر وأديب كبير مثل “غازي القصيبي”.
وقبل أن يدعه يتصور أن أحداً غير هؤلاء العمالقة، يمكن أن يمتطي ناصية الأدب الرومانسي، فيحلق في كل هذه الفضاءات المترعة بالصور العذبة المشحونة بالمفردات الجزلة، المنتشية بكل هذه الخيالات الفارعة، يضطر إلى الإذاعة والتعريف باسم فارسه، والموطن الذي ألهمه كل هذا الخيال، وصبغ شعره كل هذا الجمال والرقة، وعرج بروحه إلى كل هذه الفضاءات من السمو الروحي والحضور. الوجداني الملهم.
وتتفاجأ كما غيرك أن مبدع هذه الصور ليس سوى شاعر عشق تراب القطيف وافتتن بشواطئها، وسُحر ببراءة قراها -المنسدلة على جيد واحتها كعقد غانية – فغادرته مفتوناً بتاريخها غارقًا في تراثها مولعًا بلهجتها.
ذلك العشق تفجر فيما بعد شعراً رقيقاً عذباً جزلاً، فاضت به قريحة أديب القطيف ومؤرخها السيد عدنان العوامي، فأبدع في إبراز ألوان “النفنوف” وبراءة “الملفع” وطهر “الخلخال” وهي تزهو وتختال كسفينة تمخر عباب خليج القطيف، أو نخلةٍ تميس بين حقول الليمون وأشجار اللوز والتين، بشكل فاق فيه دقة الكاميرات الرقمية وتجاوز بمراحل خيالات الفن التشكيلي بشتى مدارسه وألوانه.
وتندهش – يقول غازي- عندما أقول لك هذا كله من شعر شاعر سعودي ترعرع على ضفاف القطيف.
وتقول لي: لماذا لم أسمع به من قبل؟
ويجيب: لأنه جاء في زمن التناطح بين الكلاسيكية والحداثة، وصاحبنا كما رأيت، رومانسي أصيل، إنه غريب في زمن غريب!
في نهاية المقالة.. يقول المرحوم الدكتور غازي: ليت السيد العوامي استشارني قبل أن يختار لديوانه هذا الاسم المنكر “شاطئ اليباب” لكنتُ اقترحت عليه أن يسميه “خلخال من الرمل” أو “قصب على نفنوف الحبيبة”!
أقول: إن دهشتي لا تقف عند حدود جهلي أنا وأمثالي بهذا التراث الأدبي لشاعر حمل القطيف نبضاً بين ضلوعه، وهماً يؤرق جفنيه، ووجعاً سافر به بعيداً، فاستلان ما استوعره المترفون، وأنس بما استوحش منه الجاهلون، منقباً عن تراث القطيف الأدبي تارة، ومعرفاً بتاريخها، ومدافعاً ومترافعاً عن عروبة لهجتها.
حتى تمكن من إخراج كل ذلك في حلل قشيبة تغري الباحثين والدارسين وتلهمهم حساً وتبعث فيهم روحاً جديدة.
أبعد من هذه الدهشة.. أراني اليوم حزينًا على غياب وتواري شمس البحث العلمي والنزاهة في النقد والتتبع في الآثار والإنصاف في الحكم وغيرها من الملكات والصفات والقدرات التي كان الأديب الكبير الدكتور غازي القصيبي يتمتع بها ويطوعها في خدمة القضايا العلمية والتعريف بمناجم الإبداع والثراء في هذا الوطن الكبير متجاوزاً قيود الطائفية ومتخطياً حواجز المناطقية التي كانت وَمَا زالت تمثل حُجبَ ظلمة تصد الكثير من الباحثين والدارسين عن امتطاء صهوة هذا التراث الأصيل المشحون بكنوز المعرفة والثقافة والتاريخ التليد والأدب الأصيل وتحول بينهم وبين توظيفه في خدمة القضايا الوطنية الكبيرة والتعريف بكنوزه الإنسانية وأصالته وعروبته.
وإذا كان ثمة حجب من الطائفية البغيضة والمناطقية الداكنة تحجب الرؤية وتحول بين أمثال هؤلاء والاستمتاع بكل هذا الجمال والإبداع، فما عذر الأقارب الذين تنكروا لتراثهم وأدبائهم ورموهم بكل عيب ونقيصة، لا عزاء لهم إلا قول أبي العلاء:
إذا وصف الطائي بالبخل مادر
وعيّر قُساً، بالفهاهة باقلُ
وقال السُهى للشمس: أنت خفية
وقال الدجى: يا صبح لونك حائلُ
وطاولت الأرض السماء، سفاهةً
وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ
فيا موتُ زُرْ إن الحياةَ ذميمةٌ
ويا نفسُ جِدّي! إن دهرك هازلُ