أعشق – فيما أعشقه – من الألوان لوناً هو أبهاها وأزهاها، لون الصدق الذي لا يشوبه كذب، والحبِ الذي لا يعتريه عيب، واليقينِ الذي لا يخالطه ريب، هو بحق لونُ النقاء والصفاء، والطهر والبهاء..
ذات شتاءٍ كنّا على موعد مع منطقة ريفية ساحرة، وما إن دخلنا حدودها حتى تحوّل الجو من قطرات المطر إلى ثلج يتساقط برقةٍ ساحرة ونعومةٍ باهرة، كان المنظر مهيباً والجو بارداً أخّاذاً وعلى جانبي الجادة تصطف الأشجارُ مرحبة بالزائرين، نازعة ثوبها الخريفي؛ لتلبس وشاح الشتاء الأزهر الخلّاب..
تلك المنطقة التي يحوطها السرو وأشجار الصنوبر والصفصاف إحاطةَ القلادةِ بعنق الفتاة تكتسي بالثلوج ويغطي بحيراتها الثلج فلا ترى على المدى البعيد البديع إلاّ اللون الناصع، والبياض اللامع..
عشت مع جمال الثلج لحظات، ولحظات، أشبه بحلم عذب لا أستعذب الاستحالة عنه، ولا أستمرئ الاستفاقة منه، وكنت كلما رأيت الأفق ملتحفاً بالبياض ونداف الثلج يتساقطُ على مروجٍ بيضٍ، وسهولٍ قُمر، وكل ما حولي استحال إلى لون أبيض زاه ومشع؛ ازددت شعوراً بأن الأبيض هو سيد الألوان ومجلي الأحزان..
فتركت نفسي في لحظاتٍ من تجلي البياض أن تسرحَ وتمرحَ في لهوها ولعبها بما يلهو الصغار بنقائهم وعفويتهم، ثم تساءلت -منعزلاً بعد أن استفقتُ من اللهو- تساؤل الغارق في الافتتان، والسابح في الجمال الفتّان:
هل كانت الروح يوماً في عالم -أجهله تماماً- يلفّه البياض ويفترشه لونٌ لا رمادية فيه، لون محايد أبيض، أبيض فحسب.. أم ماذا؟ لم هذا الانشراح الذي لا أعرف مصدره؟! وهذا الأنس الذي لا أهتدي لسرّه؟!.. أهو القلبُ المتولّه بالصفاء والمتولّع بالنقاء استفاق بدفئه؛ فأنسانا البرودة والصقيع، أم هو بياضُ الروح تجَانسَ مع بياض الطبيعة فابتهجت وانتشت طرباً وسروراً، أم هو النقيُ البريءُ الذي ألِفتُه صغيراً؛ ها هو يعود إلى صباه وطفولته، وملهاه وألعابه..
سبحان خالق هذا الطهر يهطل من سماء طاهرة.. سبحان مصوّر هذا البساط المتناغم بثلجهِ الناعم وببلوراته الرائعة كيف أخفى المعالم بهيمنة القدرة؟
سبحان الله و{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} كأني أراها وقد احتشدت بها السماء؛ فهذا هو بياض أجنحتها تحلّق في الفضاء وهذا هو نفخها في الحياة وصنعها في الطبيعة..
يا لجمال هذا الوجود المتوهج جمالاً وكمالاً؛ ففي ذراته تتجلى معاني العظمة..!
ثم أينكم يا من ألهتكم الدنيا وشغلتكم الحياة ماذا فعلت بكم هذه السماء التي موسقت الجمال فاخفت عيوبكم وسترت ذنوبكم؟ أين ضجيجكم وصخبُ حياتكم أمام هذا النغم الملائكي العذب الذي تصدح به الطبيعة الغراء الفاتنة؟
ثم أين تلك المسارب التي سار عليها السائرون والمفاوز التي اجتازها العابرون؟ أين بصماتهم ولمساتهم؟ أين عثراتهم وسقطاتهم؟ أين آثارهم ومعالم أقدامهم؟!
يا لهذا الناعم الهاطل ما أقواه في ضعفه، وما أعقده في بساطته، وما أعلاه في انحداره، وليس للبشر إلاّ الانبهار بجبروته، والانصياع لمشيئة خالقه وهو الله {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ}.
لا شيء غير صوت الرياح أخفى الهمس والأصوات، ولا شيء غير هذا الثلج رسم أبهى المناظر واللوحات..
ومن هذا الوادي الساحر ببياض ثلجه جِلتُ بعين البصيرة نحو ذلك الوادي الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، فأزهر في عيني حرم الله شمساً مشعة تطوف حولها الملائكة وتهفو نحوها الأفئدة..
ثم أزهرتْ في قلبي عرفات في بياضها المشع، مزدانة بلباس حجاج بيت الله؛ فلمحتُ القلوبَ البيضاء المتطلعة لأشعة النور الأقدس، وكلهم في قطعتين صغيرتين من نداف القطن لا من موشى الديباج والخز؛ يلبسها العارج لكرم الله والصاعد في سماء الإنابة والتوبة والضراعة؛ لترتقي نفسه ويشع جوهره، بجناحي القلب الطاهر، واللسان الذاكر..
فيا أيها القلب يا مرآة الجمال..
ليتك تعود لبياضك الناصع..
ليتك تخفف الأحمال الثقال عن عاتق هذه النفس الغارقة في الآثام والملذات..
ليتك تتطهر وتطهر فتتجلى فيك الرحمات..
ألا ليت أيامك كلّها القدر وعرفات..
ألا ليت لباسك أبدًا لباس المخلصين التقاة..
وندائي أبدًا: كن على هدى..
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}…
نصف بلواك في اللسان فكف الأذى..
وهداك فيض من الرحمن فاتبع النور والهدى..
سعادتك بين يديك..
وغناك في راحتيك..
وجمالك في أصغريك..
فانشر الطيب والشذى..
وردد بقلب خاشع وجَنَان خاضع؛
“اللّهُمَّ اجْعَلْ غِنايَ فى نَفْسي، وَالْيَقينَ في قَلْبي، وَالإِخْلاصَ في عَمَلي، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصيرَةَ في ديني” * *
(اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُوراً وَبَصَراً وَفَهْماً وَعِلْماً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..
والحمد لله رب العالمين.
* اسمها بولوابانت في شمال تركيا.
* * من دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة.